logo
السبت 18 شوال 1445هـ 27-4-2024م 9:18 ص

شعارنا : قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾.

 

نشأته وولادته

ويمكن تعريفه بأنه هو الشيخ محمد المرتضى امباكي - رضي الله تعالى عنه – أحد أبناء الشيخ أحمد بمب امباكي الملقب بخادم الرسول، مؤسس الطريقة المريدية في السنغال غرب إفريقيا سنة : هـ ،1301 الموافق سنة: 1883 مـ ،وهو غني عن التعريف، وهو أيضا مؤسس المعاهد الأزهرية للدراسات الإسلامية في السنغال، ورئيس اتحاد المؤسسات الثقافية الإسلامية وموجه جماعة جمعية التعاون على طاعة الله ورسوله . 

       وقد سماه الوالد ب: محمد، وأضاف إليه الشيخ عبد الرحمن لوح كلمة المرتضى، وهكذا استمر مشهورا باسم محمد المرتضى،

        ولادته:

    وقد اختلف في تاريخ ولادته، رضي الله عنه، فذهب البعض إلى أنه ولد في27 من ربيع الأول عام جمسش أي 1343 هـ الموافق26 / أكتوبر 1924 م ،

بينما ذهب البعض الآخر إلى أنه ولد في السادس والعشرين من ربيع أول تلك السنة 1340 هـ الموافق السادس والعشرين من نوفمبر سنة: 26/11/1921 في قرية قرآنية سماها الوالد الخديم بدار العليم الخبير

     والراجح في نظري ما ذهب إليه أصحاب هذا الرأي الأخير للأمور الآتية:

ا – أن هذا التاريخ أي:1921، يطابق المكتوب في بطاقة هويته.

ب – أن الشيخ مصطفى لوح قد حكى لابنه عبد الرحمن لوح: أنه عندما قام بالبحث عن تاريخ ميلاد الشيخ إلى السيدة الكريمة وهي من أمهات المريدين سغن جخت صله، أخبرته: بأنه من أول ربيع تلك السنة 1340 هـ.

ج – أن السيدة مسلمة امباكي شقيقة الشيخ محمد المرتضى هي أكبر منه بسنتين وتسعة عشر يوما، وثبت أن ولادة السيدة مسلمة كانت في حدود 1918/1919 م.

د – أن الشيخ مرتضى حينما اشترى منزله في كاولاخ، كان يتعجب ويقول: أن بناء هذا المنزل يوافق تاريخ ولادته.

ج – أن الشيخ كان له أخوان شقيقان وهو أكبر منهما سنا وهو الشيخ حامد، وعبد المهيمن ولو كان التاريخ الأول ليكون احتمالا بعيدا.

        أما جدة الشيخ محمد المرتضى امباكي من جهة أمه، وهي السيدة: فاطمة تاكو - رضي الله عنها - ، وكانت متميزة بالحكمة والعقل، وكانت تشتغل بالزراعة والرعي، وكانت من أصحاب الأموال والثروات، وأولى من أعطت للشيخ الخديم من النساء  هدية بلغت ألف درهم في ذلك الوقت، وكان الشيخ يتشاور معها في شئون النساء وذلك لصدقها وذكائها، وهي من بيت { سِييْ } ، فهي حفيدة الولي الشهيد  مصمب مريم جوب   الذي توفي بيد بعض أعوان الشيخ  أحمد الشيخ به ، في حال كونه جالسًا تحت شجرة يعلم الناس كتاب الله وفرائض دينهم ! ورفضت الشجرة إلا أن تكون شاهدة على الجثة، حيث بقيت تظلها من الضحى إلى العصر! ولما رجع الجنود في العصر، ورأوا الظل عاكفا على الجثة، فتيقنوا أنه من أصفياء الله؛ وندموا بعد أن سبق السيف العذل!؟

     أما السيدة فاطمة جوب فهي الأم الطاهرة التي كانت للكتاب وعاء وكان الكتاب لها أنيسا فهي والدة الشيخ محمد المرتضى امباكي، وكانت عالمة ومتقنة وحافظة للقرآن، وقد شهد لها بذلك الشيخ محمد الأمين جوب الداكاني -رضي الله عنه -الذي كان من أمناء وكتبة الشيخ الخديم وإماما لمسجد جوربل وقال:

            قد كتبت بيدها مصاحفا          تعد خمسة تراك عارفًا

              لغيرها من جملة النسوان         ته المزية من السودان

            

          وعبر الشيخ محمد الأمين جوب في هذه الأبيات بأن السيدة فاطمة جوب قد وفقها الله تبارك وتعالى بكتابة خمسة مصاحف بيدها المباركة، وهو أمر نادر الوجود بالنسبة للنساء، ويعتبر أيضًا أن ذلك فضل ونعمة قد أنعم الله بها عليها، وهذا الفضل قد ورثته منها بنتها السيدة سغن جوب البكية شقيقة الشيخ محمد المرتضى وكتبت أيضًا أربعة مصاحف بيدها المباركة، وحذت حذو والدتها في حفظ القرآن وإتقانه وأشار إلى ذلك الشيخ محمد الأمين جوب الدكاني إلى ذلك بقوله:   

وبنتها سغن فقتها وسلكت       فكتبت أربعة لكن وفت

      

              وهذا دليل على أن الشيخ محمد المرتضى امباكي قد نشأ وترعرع في بيت معروف أصحابه بالتقوى والورع والمروءة وتلازم القرآن وذلك ما ظهر وتأثر في شخصيته. 

         لذلك نادرا ما تراه إلا ويحمل بيده المصحف، وكان مواظبا للقرآن قراءة واستماعًا وشابه ذلك بوالده الكريم الشيخ الخديم الذي كان مجاورًا لربه بالقرآن الكريم وأشار إلى ذلك بقوله:

            

جاورت بالفرقان ربي المعين    ملكت نفسي وزحزحت اللعين

  

         معنى ذلك أن والده الشيخ أحمد بمب رضي الله عنه كان مجاورا للقرآن وملازما إياه، فقد شابهه الشيخ محمد المرتضى في ذلك فمن يشابه أبه فما ظلم، كما شابه أيضًا بوالدته السيدة فاطمة جوب التي نالت من القرآن ما لم تنله كثير من النساء.

            ونشأ الشيخ مرتضى في هذه البيئة الصالحة فترة قصيرة من الزمن في مدينة جوربل.

تعلمه:

                 ولم يبدأ الشيخ محمد المرتضى  التعلم إلا بعد انتقال والده – الشيخ الخديم – إلى جوار ربه، وتولى أمر كفالته وتربيته أخوه الأكبر الشيخ محمد المصطفى امباكي الخليفة الأول للشيخ الخديم سنة 1927– 1945م ، وكان يكن له محبة ورحمة ووقف بجانبه موقف الوالد ونقله إلى قريته المشهورة بحسن المئاب قرية – تِنْدُودِ - ، وأمر الشيخ مختار آل لوح ليقوم بتحفيظه للقرآن وهو من أقربائه من جهة الأم، ومكث فيها الشيخ سنوات ولَم يحصل على مراده لكون هذه القرية دارا من دور الخلافة ولم تكن مناسبة لأمر تعلمه لسبب أو لآخر وقرر الانتقال إلى دار العليم الخبير المشهور حاليا  ب - اندَامْ -  في حوالي عام  1931  م، في مدرسة الشيخ عبد الرحمن لوح القرآنية ، حيث عينه فيها الشيخ الخديم، ليتولى أمر تعليم وتحفيظ القرآن الكريم لأولاد المسلمين وتربيتهم،  فقام بهذه المهنة خير قيام، وظل يمارس هذا العمل أكثر من أربعين عاما.

      وذكر الباحث: خادم مصطفى عبد الرحمن لوح  أن الشيخ مرتضى قد حكى له : " أنه لما انتقل إلى دار العليم الخبير شعر بفتح عظيم فانفتحت له آفاق واسعة ، ولذلك حفظ القرآن الكريم بسرعة وإتقان ، وبعد الحفظ  في دار العليم الخبير، رجع إلى الخليفة الشيخ محمد المصطفى حوالي عام: 1936م في طوبى الذي أخذ بنفسه مسئولية تعليمه أمور دينه هو وابنيه السيد محمود والسيد علي، غير أن شؤون الخلافة لم تيسر له مهمته ، ولذلك لم يتعلم عليه إلا قليلا من الكتب العلمية ذكر  منها تزود الصغار ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، وبعد ذلك انتقل بأمر من الخليفة إلى قرية - طُوبَى كَيَلْ- وهي قريبة من مقاطعة - امَبَاكِي بَوَلْ-  بحوالي 10 كيلو مترات، وكان يوجد بها العالم الشيخ محمد الأمين جوب الدغاني، وقد تعلم منه بعض الشيء، إلا أن جو القرية المذكورة لم يكن مناسبا له لشفاء غليله فقد كان الزوار يأتونه من طوبى كل يوم، خاصة وأنه في هذه الفترة كان فد اشترى سيارة سهلت له ولأصحابه أمر التنقل.

 بعدما حفظ القرآن انتقل إلى قرية -دار الغفور-، ومكث فيها فترة من الزمن عند الشيخ امباي جخت، الشاعر الولوفي المشهور الذي تمتاز أشعاره بالحكم والإرشادات النافعة

وفي ليلة من إحدى الليالي قرر أن يخلف كل ذلك وراء ظهره – كما أخبر الشيخ بذلك للأستاذ خادم لوح، حينما تذكر ما أسره إليه والده العبد الخديم في صغره، فخرج على رجليه مختفيا تحت جنح الظلام حتى لحق بالقطار في قرية –انَغَابُو-قرب امباكي بول فركبه متوجها إلى بلد – موريتانيا -في إقبال إلى الله الغني، وإدبار عن الأرباب الفقراء، وكان ذلك نقطة تحول هام في حياته.

رحلته إلى موريتانيا

وغني عن البيان أن – الموريتانيا -كانت في تلك الفترة مقصدا لأهل العلم، وعلاقة – موريتانيا-بالطريقة المريدية توطدت خلال الفترة التي قضاها العبد الخديم فيها منفيا، ولأن كثيرا من أبناء المريدية من الجيل الثاني والثالث قد تعلموا فيها.

وهكذا سافر من – طُوبَى كَيَلْ -حوالي عام 1938ـ 1939مـ إلى موريتانيا وكان برفقته: شيخ جِنغْ وعمر جُوفْ وهما من أتباعه، وقد لحق بهم في – رُوصُو-سرين دام بوصو الذي كان إماما لمسجد طوبى فيما بعد.

وعندما وصل الشيخ إلى موريتانيا، توجه إلى محط رحاله إلى شاعر والده أبي مدين، الذي كان يكرمه ويحبه أشد الحب، وقد كان خلال فترة وجوده في –موريتانيا -يتعلم على ابنه: محمد بن أبي مدين، غير أن قلبه كان مشغوفا بحب القرآن الكريم، فكان يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكان ابنا أبي مدين يعقوب وسيدي محمد يتعقبانه في الليل حين يخرج إلى الفلاة لأداء نوافله ليستمعا إلى قرآنه.

وقد ذكر الشيخ أنه أحس بانشراح الصدر في هذا الوقت كما شفى مما كان يشعر به من ضيق في نفسه.

وقد عاد إلى الوطن بعد ما قضى فيها حوالي سنتين حقق فيها مكسبا روحيا عظيما. "

رجوع الشيخ من موريتانيا:

وفي حال مغادرته من موريتانيا إلى السنغال، ورافقه محمد بن أبي مدين، وهو يحمل إجازة عالية وشهادة قيمة تتمثل في أبيات شعرية من الشيخ أبي مدين وهما في طريق العودة إلى السنغال داخل الباخرة،

 

وقال:

بالشيخ شبهك لا يخفى على أحـد      إلا على أحد خــــــــال من الخلد

شابهته في ذكاء وافر وتـــــقـــى      وفي الجبين وفي الخدين والجسد

وفي تلاوة قــرآن وفي صــــــلة      وفي صلاة وصوم واجتـــناب دد([1])

               ويوضح الشيخ أبومدين في هذه الابيات، مشابهة الشيخ محمد المرتضى امباكي بوالده الشيخ الخديم بأن المشابهة بينهما لا تخفى إلا على إنسان غير عاقل وقد شابهه في وفرة الذكاء وتقوى الله وفي الجبين والخد والجسد، كما شابهه في تلاوة القرآن وصلة الرحم والصوم والبعد عن اللهو واللعب، معنى ذلك أنه قد ورث عن والده كل الصفات الحسنة كالتقوى والكرم والعبادة وملازمة القرآن والسنة، فإن الشيخ الخديم يورث بهذه الأشياء ولا يورث بالذهب ولا بالفضة، كما عبر عن ذلك في إحدى قصائده:

                 بخدمة الكتاب والحديث     يثبت لا بذهب موروثي

     وهذه الشهادات التي شهدها الشيخ أبو مدين لتلميذه الشيخ مرتضى في وقت تعلمه تعتبر أنها شهادة مهمة جدا بمثابة شهادة الجامعات، لأنه قد عايشه ولاحظ فيه هذا الاجتهاد وكل هذه الأخلاق والصفات الحميدة.

وبعد عودته من موريتانيا قد توجه إلى حيث انطلق منها وهي: طُوبَى كَيَلْ وحينما مكث هناك كان يحب الخلوة للعبادة، والتفكروالتدبرلآيات الله عملا بقول المولى عز وجل:( أفلا يتدبرون القرآن ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). وقوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، وقوله تعالى: (إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار).

إن من دأب الصالحين السياحة، والسير للعبرة، والتبصر والبحث عن آيات الله المتنوعة، وخلائقه العجيبة، ثم انتقل منها إلى ناحية سالم حيث يوجد المريد الكبير   الشيخ مُورْ خَرِ سِهْ في قريته دَارُ السَّلَامْ بَامْبُكْ، وقد صاحبه جماعة من مريديه منهم الشيخ مصطفى جوب سغن امَبَايْ الذي كان من أوائل من بايعوه.

لم ينقطع عن التعلم بل واصل تعلمه ودراسته عند بعض العلماء منهم: العالم التقي الشيخ حسن بوصو، الذي ورث عن والده الحاج امباكي بوصو العلم والسلوك وقد تولى أمر تعليمه، وذكر الشيخ للباحث خادم مصطفى عبد الرحمن لوح: أن كتاب الخليل بجزئيه من بين الكتب التي تعلمها منه.

 

 

عباداته وصفاته وأخلاقه

كل من عرف شخصية الشيخ محمد المرتضى امباكي أو عايشه يعرف تقواه وتميزه بأخلاق حسنة وصفات جميلة، وكونه صبورا يتحمل الكثير من أذى الناس، ولا يمكن أن يغضبه أحد إلا فيما يخالف الشريعة من أوامر الله ورسوله، وما عدا ذلك يمكن أن يصبره ويتحمله مهما كان من الأذى عملا بقوله تعالى لرسوله ص: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا فتوكل على الله). لذلك نتناول فيما يلي أهم الصفات والأخلاق التي كان يتميز بها.

عباداته

          ومن أبرزما تميز به الشيخ محمد المرتضى امباكي رضي الله عنه، حب الدين ، وتطبيق الأحكام الشرعية ، وملازمة العبادة لله تعالى، وكان ذلك طبيعيا في شخصيته، سيماه في وجهه من أثر السجود، كما كان شديد الحرص والمحبة  للنبي صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، فلا غرو أن يرث هذه الصفة الكريمة من والده الشيخ الخديم رضي الله عنه الذي يضرب به المثل في حب الرسول صلى الله عليه وسلم وكثرة العبادة  وملازمتها، وقد ضحى بكل حياته في عبادة الله تعالى ونفع الخلق، وقبل أن نتوسع بذكر كيفية ملازمة الشيخ محمد المرتضى للعبادات أود أن وضح أولا مدى أهمية العبادة ومكانتها عند والده الشيخ الخديم ثم نتحدث عن كيفية اقتفائه آثاره رضي الله عنهما :

         والعبادة بمفهومها الشامل اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة في الدين والدنيا، وهي في حقيقتها فعل الأوامر وترك النواهي، فإن كل الخير في اتباع الأوامر، وكل الشر في اجتناب النواهي، وأشار إليه الشيخ في قوله:

              إِذْ جُمِعَ الخَيْرُ فِي الاِتِّبَاعِ        وَجُمِعَ الشَّرُّ فِي الاِبْتِدَاعِ

 ويقرر الشيخ الخديم مفهوم العبادة بقوله:

         اعلم بأن الدين شطران كما        نص به قبلي بعض الحكما

         فأول ترك المناهي مــــطلقا       دع المنـــــــاهي لباق أطلقا

         والثان فــــعل كل شيء أمرا       به ومن يدمه يكف الأمرا

       وهي الغاية العليا لخلق الجن والانس والوسيلة المثلى للفوز بالسعادة، كانت محور أنشطة السالكين إلى الله جل وعلا، وعلى أساسها بنى الشيخ الخديم تربيته للمريدين، والعبادة بمفهومها الواسع المتمثل في أداء الأعمال ابتغاء مرضاة الله تعالى هي مدار حياة المريد السالك في جميع أوقات عمره، وتحتل الشعائر كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وهي أبزر أنواع العبادات في الإسلام وهي منزلة بارزة في حياة الشيخ الخديم وتعاليمه رضي الله عنه إلى جانب العلم والعمل والخدمة.

      وإذا كانت العبادة هي الغاية من الخلق، فمن غير العجب أن نجدها تحتل أعلى المكانة وأقصى الدرجة في الطريقة المريدية، لأنها طريقة من لا إرادة له إلا المعبود بحق وهو الله سبحانه وتعالى، وكان الشيخ يدعو جميع المريدين والمريدات من خلال وصاياه المتعددة إلى ملازمة العبادة على وجه العموم وإلى الحرص عليها

فلا عجب أن يرث الشيخ محمد المرتضى من والده الكريم في حب العبادة والاستقامة، لأنه قد نشأ وترعرع على العبادة في هذه البيئة الصالحة، ووفقه الله بأن يدرك مبكرا هذه الأهمية البالغة، وتدرب عليها منذ صغره.

       ومن المعروف أن المولى عز وجل إذا أراد أن يدخل الإيمان والهداية في قلب إنسان، يجعل أعضاءه تتعود وتنشط في العبادات، ويألف النسك والعبادة في حال طفولته كما أشار إليه الامام البوصيري بقصيدته الهمزية في شأن النبي (ص) بقوله:

وإذا حلت الهداية قــــــــلبا      نشطت في العبادة الأعضاء

ألف النسك والعبادة والخلـ      ـوة طفلا وهـكذا النجباء

وقد أشار الإمام البوصيري في هذه الأبيات إلى شأن النبي (ص) حينما كان طفلا، حيث كان ينعزل عن الناس ويذهب إلى غار حراء للخلوة وعبادة الله تعلى، ولا شك أنه قد ثبت أن الشيخ أحمد بمب في يوم من الأيام قد سمع من والدته السيدة مريم بوصو تقول: "إن من دأب الصالحين قيام الليل". ومنذ أن سمع هذا الكلام وهو لم يبلغ سن التمييز والتعلم بدأ يقوم بالليل ولا ينام على سرير، وهو لا يعرف ما يقرأ في هذا القيام،

وإذا كان هذا دأب الأنبياء والنجباء والأصفياء من عباد الله تعالى، وفعلا فإن الشيخ محمد المرتضى قد ورث عن والده الشيخ الخديم وحبيبه سيدنا محمد – ص-هذه الصفة المباركة، ويؤكد ذلك تلك الأبيات التي أنشدها له معلمه الشيخ أبو مدين

في الباخرة حينما كان في طريق العودة الى السنغال، وفي هذه الحالة أن الشيخ مرتضى في العقد الثاني من عمره، ولاحظ فيه معلمه هذا التدين ووجه الشبه بينه وبين والده الشيخ أحمد بمب حتى شهد له بهذه الابيات:

شابهته في ذكاء وافر وتقى      وفي الجبين وفي الخدين والجسد

  وفي تلاوة قرآن وفي صلة      وفي صــلاة وصوم واجتناب دد

          ويحكى أن الشيخ مرتضى في أيام صغره، بينما كان الأولاد يبنون أشكالا ترابية، كان الشيخ محمد المرتضى يبني رموزا على شكل مدارس ومساجد!؟

وكما ذكرنا آنفا أن قلبه مشغوف بحب القرآن الكريم، فكان يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكان ابنا أبي مدين يعقوب وسيدي محمد يتعقبانه في الليل حين يخرج إلى الفلاة، لأداء نوافله ليستمعا إلى قرآنه، وهذا دليل على أنه ليس لم نرهناك فرق بين صغره وكبره في ملازمة العبادة وحب القران، ونقلت عن أحد أبنائه الكبار وقال: منذ أن تميز لم ير أي تغير في صفة وبرامج عبادته، وفي ذلك الوقت لم يصل الشيخ إلى هذا المستوى من العمر، وهذا معنى قول الشيخ أحمد بمب:

كرامة الولي أن لا يعـــصيا       في ظاهر وباطن فلتـــدريا

       وفي مجال التعبد فهو لا يبارى، لأنه – كما قال الشيخ مصطفى لَيْ شاهدته بأم عيني -كان يتهجد في الليلة ركعة يصليها في الوقت المختار وهو الثلث الليل الأخير، وتلاوة هذه الركعات تدوي كدوي الرعد من بين سورة البقرة الى من الجنة والناس بصفة متوالية ومستمرة فضلا عن الفرائض الخمس وما قبلها من النوافل وما بعدها. وأما الصوم فديدنه. وكان يحبذ ويتمنى لو يجتمع شهر الصيام وزمن الصيف شبيها بشبيهه الامام علي كرم الله وجهه في خياراته الصوم في الصيف والضرب بالسيف والتهجد باليد والناس نيام.

     وحكى الأستاذ بشير جوب للأستاذ خادم مصطفى عبد الرحمن لوح نقلا عن والده الذي كان من أوائل من بايعوا الشيخ ومن أصدقائه، أنه قد لاحظ أن الشيخ لا يحب الرجل الذي يخالط النساء أو يجلس في مجالسهن، وخاصة أهل التربية بدرجة أنه يدعو ويرسل -بسرعة -وهو في مكان عبادته -الشخص الذي يذهب الى بيوت النساء دون حاجة ضرورية؛ وينصحه بأن السالك يجتنب المخالطة من غير ضرورة.

ولوحظ أن الناس كانوا يزدحمون دائما في منزله ويكثر الدخول والخروج عنده، ولا يزعجه شيء من ذلك لحلمه وصبره وحبه الناس، وخاصة الصبيان والشبان، ولا يعرقله من عباداته وقيامه بالليل،

 وقيل إنه في سنواته الأخيرة، كان يقوم بالقرآن كله في الليلة مع ما كان يعانيه من آلام في رجليه، وبعد ما تم تجديد بيته في طوبى قرب الجامع الأكبر؛ ذات يوم استراح على سريره من منتصف الليل الى الثانية صباحا أي لمدة ساعتين. ولما قام غضب! وكان يشتكي من هذا الامر جهرا، وأشار إلى نقل السرير لأنه العائق! وقال: كيف يليق للإنسان أن ينام ساعتين في الليل! وكان يلازم سنة الخلوة والاعتكاف للعبادة، وخصوصا العشر الأواخر من رمضان، كانت دأبه وسنته التي لا تبديل لها من أمر.  

فإنه كان محافظا على الصلوات الخمس والنوافل، ويعطيها حقها كاملة في الاعتدال والهدوء والطمأنينة وانشغال العقل بالله، ولا يستعجل ويستحضر قلبه وعقله، ولا يشعر بشيء مما حوله حتى ينتهي من الصلاة، لذلك إذا كان من المأمومين من هو كسول، أو من لم يكن يراعي هذا النوع من الهدوء أو الطمأنينة في الصلاة ينزجر ويتعلم من ذلك أن الصلاة تحتاج إلى التقوى، ويذكره أنها لا ينبغي إهمالها، ويعلم أن هذه الصلاة تختلف عن التي كان يؤديها.

 وكذلك في الوضوء كان يعطيه حقه في تتبع الأماكن التي يجب عليه غسلها بعناية، ولا يعرقله شيء من أمور الدنيا من آدائه العبادات، ويعطيها وقتا كافيا حتى ينتهي منها ولا يبالي ضيق الزمان، أو الحوائج الأخرى التي تتعلق بأمور الدنيا، وكأنه في حرصه على العبادات، قد قطع بينه وبين الناس وانعزل عنهم، وهو ما يسمى بخلوة في جلوة، أو كائن بائن، أي يعاشر مع الناس ويختلط معهم في الظاهر، ويجاور ربه في الظاهر والباطن، وكأنه جمع بين مخالطة الناس، والانعزال عنهم للعبادة.

وعند صغره في السن كان يطبق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المخالفين، ومن دأبه اقتفاء السنة في كل أمر من أمور دينه، وما يؤيد ذلك الاعتكاف الذي كان من دأبه في العشر الأواخر من شهر رمضان.  

        لاحظنا في ما سبق مدى حرص الشيخ محمد المرتضى على العبادات، واقتفاء سنة النبي -ص -، ولا شك أنه قد ورث ذلك عن والده الشيخ أحمد بمب، الذي قد قضى حياته كلها في عبادة الله وحث الناس عليها،

ومن ذلك قوله:

               فَوْزٌ يَدُومُ والمنى والفرح      لمن بعلم وبسعي يفرح

               ليس يفوز بالمنى في أبد      إلا الذي علم ذا تعبد

              وكان يأمر المكلف بالحرص على معرفة ما يُصلح به عباداته الاساسية من فروض العين، كأركان الإسلام الخمسة التي لابد من المسلم أن يعرفها، بعد الايمان بالله تعالى، والوقوف عند حدوده بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهي التي أشار إليها مجملة:

                أَوَّلُ مَا أَوْ جَبَهُ الـــــرَّحْــمَنُ      قطعا على المـــــكلف الإيمان

ثمت معرفة ما يصــلــح به       فرائض العين جمـــــيعا فانتبه

كحكم صوم وطهارة صلاة       فرضا ونفلا وكحــــج وزكاة

ثم عليه أن يحافــــــظ على       حدود رب العرش جـل وعلا

وعند أمره ونهيه يــــــــقف        وأن يتوب كل حين يعترف

        كما كان يُعَلُّمُ الصغار ويرشدهم إلى معرفة هذه الأركان الدينية، ليحاولوا تعويد أنفسهم بتطبيق ما أمكن منها حتى يتعودوا عليه في كبرهم.

إسلامكم يا أيها الصــغار       لمـــــــن له الدنيا وتلك الدار

ذكر الإله وصلاة وصيام       حج زكاة كل ذي حتما يرام

      وقد أمر بالعناية على كل ركن على وجه الخصوص، ونذكر بعض الأبيات التي كان يحث الناس فيها على الالتزام بهذه الأركان بالتفصيل بكل ركن على حدة، وقال:

 

 في الشهادتين:

ولفظ لا إلــــــه إلا الله          محــــمد أرسله الإله

أفضل ما نطقه من يذكر         فكل من أنكره فيخسر

 وفي الصلاة:

واجتهدوا في الصلوات الخمس        تكن لكم نور كنور الشمس

واعلم بأن أفضـــــــل الطاعات       صلاتنا في أول الأوقات

        وكان يشدد على ترك كل عمل بعد دخول وقت الصلاة وقبل أدائها ويقول: من شغلته الصلاة عن الأشياء انتفع بها وبالأشياء، ومن شغلته الأشياء عن الصلاة لا ينتفع بها ولا بالأشياء.

وفي الصيام:

أما الصيام فهو من أفضل ما         طلبت مرضاة به ونعما

لأن في الجنـــــة بابا لا يقب         فيه سوى أهل الصيام فاحتسب

 

وفي الزكاة

أما الزكاة فالفرائض لها       تعد أربعًا فراع كلـــــــها

قل نية تمام حول وتــمام        نصابها عدم نقل ذا تمام

وفي الحج:

الحج يخرج الفتى من الذنوب        جملتها ومن بقية العيوب

وجاء أن كل ذنب يصــــــــدر        من عـــمرة لعمرة مكفر

وحجة مبرورة ليس جزاء      لها سوى الجنة فيما أبرزا

       ورأينا موقف الشيخ الخديم فيما يتعلق بالأوامر، وموقفه أيضا بالنواهي، ولاحظنا أنه قد تركز في حث الناس على ترك النواهي أكثر من الأوامر، لكونها أثقل على النفوس، وللأن التخلية مقدمة على التحلية وقال الشيخ:

لكنما الأول أثقل لدى          من آمنوا ولازموا التجلدا

وقد اوصى جميع المتعلقين به بالابتعاد عن جميع المنهيات فقال:

وصيتكم يـــــامن تعلقوا بيا        في السر والجهر لوجه ربيا

أن تتركوا محرما وما كره         لوجه ربكم وكل مشتبه

من علم الجميع فليفارقا        ومن بها جهل فليرافقا

وقد أمر المريدين في بعض وصاياه وقال:

         وقال أمرت كل من تعلق بي من المريدين والمريدات لوجه الله تعالى الكريم، بتعلم العقائد والتوحيد وأحكام الطهارة والصلاة والصيام وغيرها من كل ما يجب على المكلف، وإني قد تكلفت لكم ولكن بتواليف يكون فيها جميع ذلك.

        وقد رأينا مدى العناية التي كان الشيخ يوليها للعبادات عموما، ولأصولها وأركانها على وجه الخصوص، ولم تقتصر هذه العناية بالأركان والأصول فحسب بل شملت أيضا نوافل الخير والمندوبات المكملة للفرائض.

وأعمر الأوقات بالنوافل        بعد الفـــــــــرائض بلا تغافل

وهكذا بالصوم والأوراد        والذكر والفكـــرة في التمادي

وبتصدق وجــــذب المال       إلى ذوي الحاج لوجه الوالي

      وقد تعلمنا من الأبيات والنصوص السابقة مدى اهتمام الشيخ الخديم بالعبادات، وحث الناس عليها، وكيف كام يربي أهله وأتباعه عليها، وقضى كل حياته فيها إلى جانب التربية والتعليم.

 

أخلاقه

إنه من بعض صفاته وأخلاقه رضي الله عنه كان إنسانا رزينا صموتا، حكيما، عالي الهمة، بعيد النظر، نافذ العزيمة، صبورا، جوادا حليما، مقداما على الحق، وذا فلسفة حكيمة، وباختصار كان على أخلاق سميه الرسول -صلى الله تعالى عليه وسلم -الذي وصفته السيدة الجليلة-عائشة-رضي الله عنها، أن خلقه كان القرآن الكريم، وكما أشار الشيخ الخديم في مدحه الرسول صلوات الله وسلامه عليه،

المرتضى الأذكى المزكى الأتقى       يامن بجاهه فتقت الرتقا

وفيما يتعلق بجواده ورحمته:     

كان جوادا بما يفوق المثال والقياس! يضع حقيبته بجانبه ويفرقها للفقراء والمساكين وطلبة العلم والمحتاجين من غير حساب أو تمييز، ولعل الغريب من جوده هو أنه عندما يعطي شخصا، يأمره بالعودة مرة أخرى للأخذ، هذا معروف لكل من يغشى مواضعه، وكان يقول: نعطيك شيئا ثم تأتي مرة أخرى لتأخذ شيئا آخر).

     فإن الشيخ محمد المرتضى في سخائه الجبلي -بدون مبالغة -أجود من حاتم الطائي الذي يضرب به المثل -قديما -في الكرم والجود، صحيح أن حاتم لم يبخل في حياته ولم يتقاصر -ولو يوما واحداً عن إملاء، وفاض سائله بمجرد أن قرع سندان أذنه مطلبه، بيد أنه لم يسمع عنه أنه يعطي المستنجدين وغير المستنجدين على السواء.

وأما الشيخ فمن علامات سخائه أنه يجود بما عنده الى المستعطي وغيره، ومن شيمه أنه يقتصد في كلامه ويسرف دائما في عطائه، ولذلك نعته أحد الواصفين بأنه بمثابة مقر الوزارات: المالية، الأوقاف، التمويل، الشئون الاجتماعية يلجأ اليه الجميع العفاة والفقراء، المساكين والضعفاء، والمرضى وغيرهم، وما لبست أذناه لإنسان قط، كيفما كانت مكانته الاجتماعية، يستوي في الاستفادة من ميره القاصي والداني.

وإن أسعد أيامه ذلك اليوم الذي أدى فيه فرائضه ونوافله ورتل قرآنه، وامتلأت صرته بنقود يوزعها على طوابير الفقراء والمحتاجين، ولهذا فإن بيته كعبة الفقراء من كل صوب وحدب.

وقد سجل أروع مثال في السخاء، كما حكاه شاهد عيان، أنه في يوم من الأيام -في سبعينيات القرن الماضي -استدان من صاحب عقيقة مبلغا من المال، وأهداه إياه ليشتري به كبش العقيقة! ولهذا يقال إنه احتفظ بقصب السباق وضرب الرقم فوق القياس.

وهو في هذه الحالة قد تحقق فيه دعاء والده في القصيدة التكريمية بقوله:

قدير قهار يا جبار يا غرضي       رض لي الذي يأخذ الأموال مجانا

وهذه حقيقة ملموسة عند كل من يعرفه، كان الناس يأتونه مثنى وفرادى وجماعات لأخذ هذه الأموال مجانا.

وفي مدينة بَامْبَيْ حدث أن جاء شابان في وقت متأخر من الليل، وهما يضربان باب الشيخ ليفتح! دعا أحد المواطنين الشرطة للتدخل لضبط الأمن لسلوك هذين الشابين؛ لما وصل رجال الأمن فر هاربا أحد الشابين، وقبض على الآخر إلى المركز، وبات هناك بقية ليلته، وفي النهار جاء هذا الشاب تائبا عن فعلته، أعطاه الشيخ مرتضى 150000 فرنك سنغالي رحمة له لما قال له الشاب إنه بات ليلته في مركز رجال الأمن قائلا له: نحن لا نريد أن نضر أحدا أو يتضرر منا شخص.

وفي حلمه وصبره:

كان حلمه رضي الله عنه قد فاق القياس وجاوز الاطواد والجبال، كان يتلقى أذى كثيرا من الناس ولا يشكو ولا يتذمر ولا يتضجر، يزدحم الناس بين يديه لحوائجهم، وبعضهم يسألونه كأنهم لهم دين عليه، ويتكلمون بأصوات عالية، وبعضهم يضربون الباب ويتخاصمون جهرا، كل هذا وهو يتحلى بالصبر والإغضاء، وبلينه وتواضعه وسماحته كان ملجأ الأيتام ومأوى الفقراء وملاذ الصغار، ومن كان يغشى مجالسه يتأكد بنفسه من هذه الحقيقة، كان لا يفرق بين أحد من أحد وكلهم عنده سواسية لوجه الله الخالق، بل كان يزجر من يحاول إراحته

من هذا التعب مشيرا إنهم عيال الله وهكذا رحمته كانت واسعة لجميع الخلق لوجه الخالق.

ومن أشهر صفاته حبه للعلم والعلماء، وخير دليل على ذلك صلته الوثيقة بالعلماء في الداخل والخارج وهذه الآثار العلمية التي خلفها للأمة الإسلامية كما نفهم من ذلك أنه ورث الوالد عن الخديم سره.

فمحبته للعلم لها أدلة واضحة وضوح الشمس بشهادة المعاهد العلمية التي أنشأها، أما حبه لأهل العلم فحدث عنه ولا حرج! فهو يكن لهم حبا صادقا، كما يقدم سندا ماديا ومعنويا كبيرين، فكثير من المتعلمين -خاصة منهم أولئك الذين تخرجوا في الجامعات الاسلامية -يجدون عنده ملجأ آمنا دون تمييز لنسب او طائفة، فهو ابوهم الروحي الذي يحتضنهم ويحنو عليهم ليحميهم من الحروب التي تشن بشراسة ضدهم من قبل أعداء العلم،

         ومن صفاته أيضا الزهد والورع، منذ صغره ولا يخاف في الله لومة لائم، فقد كان يتخذ الدنيا مطية للآخرة لا يأخذ منها إلا ما يحقق له أهدافه النبيلة، لا تهمه المنازل بقدر ما تهمه المساجد والمدارس والكتاتيب ودهاليز الاعتكاف والتلاوة في جميع بيوته، والصلاة فيها جماعة، والنفل فيها فجرا عملا بقوله تعالى (وللآخرة خير لك من الأولى)  

أما عزمه وتوكله:

كان رضي الله عنه متوكلا على الله مع الأخذ بالأسباب، وبتوكله وعزمه القوي قد استطاع تجاوز العقبات المتراكمة التي كانت تعترض سبيله، وقال له شخص ذات يوم: يا شيخ لو كنت خليفة أو عندك أموالا كثيرة وجماعات تستطيع تنفيذ جميع مشروعاتك !؟ أجاب الشيخ: ليس الأمر كذلك فمن واجب الإنسان أن يعمل لوجه الله دون التقيد بالأموال أو الجماعات التي تسانده.

وذكر الباحث عبد الرحمن لوح معلقا على عزمه وتوكله: " المألوف من عادة الطريقة المريدية أن يكون الخليفة العام المحرك الأساسي للجماعة بحكم كونه مسموع الكلمة والهدايا تجتمع عنده حيث ينفذ أعماله بلا عوائق تذكر، وهو يملك أرزاق المريدين وأصواتهم، من حيث إذا سألهم أعطوه بكثرة هائلة؛ وإذا ناداهم أجابوه بسرعة البرق الخاطف! وهو الذي يحدد وينفذ أنشطة الطريقة بصفة عامة، والشيخ مرتضى لم يكن خليفة عاما، وأتباعه ليست بالكثرة المظنونة ولكنه قام مقام الخلفاء، لأن الخلفاء لهم نفوذ واسع وسلطات لا تحد، وقد أنجزوا ما أنجزوا

باستجابة المريدين بأموالهم وأنفسهم وجهودهم، كما أكد الخليفة الثالث الشيخ عبد الأحد امباكي فيما معناه:

إن إمكانياتي وقدراتي محدودة جدا قبل أن أكون خليفة، ولما كنت خليفة، أصبحت الأرزاق جارية من كل ناحية؛ ولذلك لابد من مشاركة هذه الأرزاق مع أهل الشيخ الخديم، لأن هذه الأرزاق وما يأتي هنا للشيخ الخديم فقط، وليس لأجلي؟  والشيخ مرتضى قد عمل بجهوده الخاصة، وإمكانياته المحدودة، حتى أنجز ما لا يشك فيه ذو عقل سواء من المواطن العادي، أو الدولة ذاتها، فنتائجه المباركة وآثاره الطيبة، وإنجازاته العظيمة في السنغال وفي القارات الخمس لأصدق دليل على هذه المقولة! ومؤسسة الأزهر الإسلامية، والإنجازات التي تمت في الخارج بفضل جهوده وخطواته المباركة.

وكان رضي الله عنه، ذا حياء؛ فنادرا ما يواجه من يرتكب خطأ في شخصه وحقه، إلا إذا كان تعديا ومخالفا لأوامر الله تعالى، فيزجره لنهي الله عن ذلك! وقد لخص لنا الشاعر الحاج محمد محمود انيانغ بعض صفات هذا الشيخ الجليل وقال زاده الله فيضا:

يا مرحبا بابن الخديم المرتضــــى       بطل الشريعة والحقيقة والعمل

أهلا بشيخ مرشـــد داع دعـــــــا       نا للتمسك بالكتاب المـــــشتمل

وبحبله وبسنة المختــــــــار فـــي      سر وفي جهــــــر فنعم الممتثل

شيخ جليل شاهد ومـــــــجاهـــــد      يبني المعاهد والمساجد والنزل

شيخ يضحي دائـــــــــما بنفـــيسه      وبنفسه وبمـــــــــاله دون الملل

شيخ يجدد نهج والده الــــــــــذي       خدم الرسول المصطفى خير الرسل

شيخ بخلوته يــــــــــــناجي ربـه       وبخلوة يتـــلو الكتاب فلا جدل

يتلو كتاب الله طول نــــــــــهاره       ويقــــوم طول الليل فينا مبتهل.

 

علاقاته

         وإذا تأملنا العلاقات التي كانت تربط بين الشيخ محمد المرتضى امباكي وبين الناس، فإنها كانت علاقات متميزة جدا، لأن الشيخ بطبعه كان إنسانا اجتماعيا يستطيع أن يخالط جميع الناس، لما كان يتميز به من الحلم واللين، وسعة الصدر، والانفتاح وفتح أبوابه لكل الناس بكل مستوياتهم وطبقاتهم بدون تمييز بين أغنياهم وفقراهم فليس لأحد عنده حدود، ولم يجعل نفسه صعبة الوصول، وسهل نفسه كما قال النبي ص عليه وسلم: ألا أخبركم بمن يحرم على النار، وبمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هين سهل،

        ومعنى هذا الحديث ألا أخبركم بمن يحرم على النار أي يمنع ويحجز عن دخولها فيعافى منها، وبمن تحرم عليه النار: أي تصبح النار محرمة عليه فلا يدخلها ثم أوضح النبي -ص – صفة المعافي من النار فقال على كل قريب إلى الناس هين يتصف بالسكون والوقار واللين في تصرفاته مع الناس.  سهل: أي سهل المعاملة والخلق ميسر على الناس. وفي الحديث الحث على لين الجانب في معاملة الناس.

        وهذا الحديث قد تحقق في شخصية الشيخ محمد المرتضى ، لأنه قد فتح نفسه وبشاشة وجهه للجميع، ذلك مما جعله كثير العلاقات على أحسن وأكمل وجه  سواء من أقاربه بإخوته وأخواته من أبناء الشيخ الخديم، وجميع إخوته النسبية من أسرة أهل امباكي والبُصُوبِيِّ، وكان بينه وبينهم علاقات طيبة وممتازة ، كما كانت له علاقة طيبة بكبار المريدين من أتباع الشيخ الخديم، وكان يخالط معهم ويعاملهم معاملة حسنة، كما كان يخالط ويعامل معاملة طيبة مع الشيوخ الآخرين من الطرق الصوفية الأخرى، ويتبادل معهم الزيارات، ولم يكن يعرف الانتماء إلى الطريقة، ولا تكون الطريقة  حاجزة بينه وبين معاملته مع أحد، بل كان ينظر الإسلام في الانسان، ولم يكن أيضا يميز بين من كان من أتباعه ومن كان من أتباع غيره ، مما جعله يستطيع أن يخالط كل الناس، وكان أيضا كثير النفع كثير العطاء جوادا وكل من رآه يحاول أن ينفعه بماله، وإذا أعطاك بماله اليوم، وجئت غدا يعطيك أيضا، وإذا لم يكن عنده ما يعطيك إياه يعدك بأن ترجع إليه مرة أخرى، وكان صبورا يتحمل الكثير  من أذى الناس، وإذا كان يعامل مع بعض الناس ووكل اليهم بعض الأعمال التجارية وخانوه فيها وأكلوا أمواله، فلا يؤاخذهم بذلك ولا يطالبهم بتلك الحقوق ولا يريد أن تنقطع علاقاته بهم بسبب تلك الأموال، وكان صوفيا حقيقيا بمعنى الكلمة، ويمثل الصوفي الحقيقي كما قاله الشيخ الخديم.

وَالحَاصِلُ الصُّوفِيُّ عالم عمل      بعلمه حقيقة ولم يمـــــــــــل

فصار صافيا من الأكـــدار      ممتلئ القلب من الأفكـــــــار

منقطعا لربه من البشـــــــــــر      مسويا دينار عين بالمـــــدر

كالأرض يرمى فوقها كل قبيح    ولا تري من بطنها إلا مليـح

يطأها الكــــريم واللئيــــــــــــم     والبر والعاصي وتســــــديم

وكالسحاب وكقــــــــــطر الماء     في الظل والسقي بلا اـــــاء

ومن يكن كذاك فهو صـــــوفي     أو لا فذو دعوى على المعروف

            فإن الصفات التي أشار إليها  الشيخ الخديم في هذه الأبيات وتمثل بمجملها الصوفي الحقيقي ، فإنها قد اجتمعت في شخصية الشيخ محمد المرتضى، وبدأها بالعلم والعمل والصفاء من الأكدار والهمة العالية إلى الله تعالى والإعراض عن الناس في الباطن والتفتح لهم في الظاهر وكأنه يشابه بالأرض أي يمشي عليها الجميع وتتحملهم جميعا، وكالسحاب والمطر  في الظل والسقي أي فتح أبوابه للجميع للصالح والطالح  ويغدق عليهم أمواله بدون استثناء، ويراعي دائما حق الله في خلقه ويرحمهم وينفعهم، كما حكي الشيخ الخديم رضي الله عنه في كتابه نهج قضاء الحاج : وراع في كل خلق حق من خلقه. 

     ولاحظنا أيضا أنه بطبيعته كان محبا للإسلام وأهله، ويحرص كل الحرص على العمل والتطبيق بكل ما أمر به الشارع وما أوصى به من إحياء الأخوة الايمانية والإسلامية، وكان يقوم دائما بالحفاظ عليها وتعزيزها، والسعي دائما إلى صلة الرحم بأقاربه وبإخوته في النسب والدين، وخصوصا بكل من كان أبوه أو جده له علاقة وطيدة بالشيخ الخديم سواء من المريدين، أو من غيرهم.

    ولذلك ينبغي أن نتناول في هذا المبحث، كيف كان يسعى إلى إحياء هذه العلاقات سواء داخل الطريقة المريدية أو خارجها.

علاقاته داخل الطريقة المريدية

ونظرا لأهمية الأخوة الإسلامية وصلة الرحم في الاسلام، فقد أمرنا بهما المولى عزوجل، وحث عليهما في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وحذرنا من القطيعة وخطورتها، وقال تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار) وقال في موضع آخر: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار). وقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون).

ويمكن الاستفادة من هذه الآيات بأن صلة الرحم قد أمر بها المولى عز وجل وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) وصلة الأرحام تكون من خلال زيارتهم والاطمئنان عليهم والسؤال عنهم عند مرضهم والدعاء لهم عند مصائبهم ومساعدتهم في كرباتهم وعثراتهم، ومشاركتهم أفراحهم واستضافتهم وإكرامهم.

وحذرنا من قطع الأرحام حيث اعتبره من الفساد في الأرض ونقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقيل بأن قاطع الرحم لا يدخل الجنة، وهي بالاختصار إيصال ما أمكن إيصاله من الخير ودفع ما أمكن دفعه من الشر.

وعملا بهذه النصوص الشرعية، نرى أن الشيخ محمدا المرتضى امباكي كان يسعى دائما لصلة الرحم وإحياء وتجديد علاقاته النسبية من جهة، وعلاقاته الايمانية من جهة أخرى، وفي مجال العلاقات النسبية كان يسعى دائما لإحيائها وتعزيزها وتجديدها، كم قرية نزل فيها، أو كوخا بات فيه، أو سفرا شاقا قام به، أو سوقا أو مكتبا أو بنكا زاره، أو مستشفى أو عيادة دخل فيها إلا من أجل الحرص على صلة الرحم وحفظ العهود والمواثيق.

      وفيما يخص علاقاته بإخوته من أبناء الشيخ الخديم ، فإنه كان يتفقدهم ويتبادل معهم الزيارات ويتشاور معهم في أموره، ما من بيت من بيوت أولاد الشيخ الخديم إلا وتجد فيه سميا للشيخ مرتضى، كما تجد في بيته أسماء لهم من أولاده، وكان يخصص بعض الأيام لقضائها في منازلهم ويزورهم ويتفقدهم دائما،  فتنطلق تلك العلاقة من والده المؤسس الشيخ الخديم ، وقد روي عن ثقات أنه ذات يوم زار والده قبيل رحيله إلى الباقي القديم وقبل سن التعلم، ولما توادع الوالد، ومشى خطوات للرجوع إلى مقر إقامته، رأى والده خطواته وهو يمشي وقال :  إن خطواته ستتسع وتمتد إلى آفاق كثيرة في البلاد والأوطان المختلفة،  وفعلا قد تحققت هذه المقولة لذك نادرا ما تزور مدينة من مدن السنغال أو قرية من قراها إلا وتجد فيها آثاره، وكذلك كانت له علاقة طيبة مع إخوته من أبناء الشيخ الخديم، وبالنسبة لعلاقاته مع أخيه الأكبر الشيخ  محمد المصطفى امباكي ، الذي تولى الخلافة المريدية وقام بتعليمه القرآن الكريم في قريته حسن المئاب - تِنْدُودِ - عند الشيخ  مختار آل لوح ، حتى اختار الشيخ محمد المرتضى بنفسه المجيء إلى  دار العليم الخبير- نَدَامْ -  عند الشيخ عبد الرحمن لوح حيث حفظ القرآن الكريم في مدة قصيرة جدا، ولكن لما تم حفظه على أحسن وجه، أخذه من جديد الشيخ  محمد المصطفى  ليعلمه بنفسه العلوم الشرعية والنقلية مع ابنيه الشيخ محمود، والشيخ علي ، ولكن نتيجة الظروف الضيقة لمهام الخلافة وشغل الخليفة في إدارة وتسيير هذه الأمور الضرورية، اضطر  الشيخ محمد المرتضى إلى الرحيل إلى موريتانيا ، لمواصلة دراسته عند مريد والده الشاعر والعالم الكبير الشيخ  أبي مدين، ([2]) ثم عند الشيخ  حسن بص في - حَيِّ غِدِ - من ضواحي طوبى، وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره.

 ولكن مازالت العلاقة التي كانت تربط بينه وبين الشيخ محمد المصطفى متينة واحترام متبادل بينهما حتى انتقل إلى رحمة ربه يوليو سنة: 1945 م.

أما علاقاته بالخليفة الثاني  الشيخ محمد الفاضل  فكانت علاقة وطيدة ومتينة وبينهما احترام متبادل ووقار، وقد كان كل منهما معجبا بالآخر، وقيل إن الشيخ  محمد الفاضل  كان يقول له : إنك شيخي لكونك آخر من خرج من باب الفضل والعلى، وكان يشهد فيه أمورًا عجيبة، والشيخ مرتضى  أيضا كان يعجب جدا بأخيه الأكبر الشيخ محمد الفاضل ويكن له احتراما عظيما، وهناك أشياء كان يفعلها من أعمال العرف والعادة قائلا : إن الشيخ محمد الفاضل كان يفعلها وهو من الأكابر الأجلاء، وقد سمى كل واحد منهما الآخر من أكبر أبنائه، ولما كان يقوم بإنشاء المعاهد الدينية، توجه فورا إلى الخليفة آنذاك وهو  الشيخ محمد الفاضل الذي بادر إلى  استحسان الفكرة وتأييدها، وكتب له فورا رسالة الموافقة والتأييد من نفسه ومن المريدين الذين هو رئيسهم ، بل قال له :  أنت وكيلنا في الأمر وفي المهمة  وقد أوفده في سنة 1963 م مع وفد كبير للحج وزيارة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولما رجعوا من الحج في العاشر من مايو نفس السنة ، قد فتح  الجامع الأكبر في طوبى المحروسة في السابع من يونيو 1963 م، وكان يستشيره بحركاته وسفرياته داخل وخارج الوطن والأمور هكذا حتى انتقل إلى جوار ربه في أغسطس 1968 م، وتولى الخلافة الشيخ عبد الأحد.

     ومما يعرف من علاقته بالخليفة الثالث الشيخ عبد الأحد، فإن العلاقة بينهما كانت قوية وممتازة جدا بدرجة أن ابنه الأكبر مامورامباكي، كان في صيانته ورعايته هو الذي اختاره من بين أحفاد وسميات القاضي  مامورهَنْتَ سَلِ  ليحج نيابة عنه سنة : 1973م ، بعد مشاورة والده  الشيخ محمد المرتضى وهو آنذاك في السنة الدراسية بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية – بُوتْلِمِيتْ – بموريتانيا ، وقد قام أيضا بتزويجه السيدة ميمونة انيانغ بنت أختهما الشيخة آمنة الشيخ بنت الشيخ الخديم ، وقد سمى كل واحد منهما ابنا من أكبر أبنائه.

 وقد قام الشيخ عبد الأحد بمساندة  الشيخ محمد المرتضى في بناء المعاهد والمدارس ؛ حيث كون لجانا تسعى وتجول داخل الوطن لجمع التبرعات من المريدين لهذه المدرسة الخديمية، وكلم بصوته في الإذاعة الوطنية السنغالية معلنا أن جهود الشيخ محمد المرتضى في التربية والتعليم ماهي إلا استمرار ومواصلة لجهود الشيخ الخديم التعليمية والتربوية ؛ ولذاك يجب على كل المسلمين وخاصة المريدين منهم مساندة هذه الجهود المباركة، وكون لجنة تنفيذية لإدارة هذه الأعمال برئاسة الشيخ محمد المصطفى بن الشيخ محمد البشير والشيخ عبد الودود بص والشيخ مصطفى عبد الرحمن لوح ابن أختهما.

   والشيخ عبد الأحد هو الذي أمر بتبليط ومد الطريق المؤدي إلى المركز الرئيسي المعهد الأم مركز خادم الرسول – انَدَامْ -بداية من الطريق المزدوج بين -امباكي وطوبى -وهو الذي قام أيضا بتحمل نفقات استضافة وزيارة الرئيس سِنغُورْ للمعهد في 21/01/ 1978 م هكذا كانت علاقتهما وطيدة ومتينة.

     وكان الشيخ مرتضى يخصص يوم نصف شعبان لزيارة الشيخ عبد الأحد ويقضي في منزله حوالي ثلاثة أيام وكانت زيارة سنوية،

    وجرت بينهما زيارات متبادلة ومشاورات مشتركة في كثير من القضايا الوطنية والإسلامية والعالمية، وقد قام الشيخ عبد الأحد بتعيينه إمام العيد الأكبر لما كان في الحج الإمام الشيخ عبد القادر سنة 1976 م، كما عينه الشيخ عبد الأحد لوضع حجر أساس توسعة الجامع الكبير في طوبى المحروسة كانا على تلك السيرة الحسنة والأخوة الصادقة حتى انتقل الشيخ عبد الأحد إلى رضوان ربه يونيو 1989 م ([3]) وتولى الخلافة الشيخ عبد القادر.

 أما الشيخ  عبد القادر والشيخ مرتضى  كأنهما شخصان في شخصية واحدة لقوة علاقاتهما وتماثل أهدافهما، وقد قيل عند تخطيط مدينة  طوبى  بشكلها الحالي فقد كان كل واحد منهما يتمنى أن يكون منزله قرب منزل الآخر أي بجوار بعضهما البعض، وأصبح منزلهما لا يفصل بينهما سوى شارع واحد وهما متقابلان وكذلك روضتاهما متقاربتان، وقد كان  الشيخ مرتضى  يوكله في عياله وأتباعه في سفره وحضره ، وكانت بينهما زيارات متبادلة وقد كان  الشيخ عبد القادر هو الواضع للحجر الأساسي  لمعهد الشيخ محمد المرتضى في بامبي سنة 1979 م، وكان يزوره في منزله ب  بامبي  وهو الذي سمى ذلك المنزل ب- بلوغ المرام ، وقد كتبت لافتة بهذا الاسم معلقة على باب البيت تنفيذا لهذا الاسم والإذن.

       كما أكد مرباه ومريده: آدم جو الذي كان مدير ذلك المنزل وما زال الراوي حيا وساكنا في البلدة وهو الذي حكى هذه الأمور، وأضاف قائلا: إنه لشدة ترابط عهدهما وصداقتهما الحميمة؛ كان الشيخ عبد القادر عندما يأتي لزيارته السنوية لمريده -سرين شيخ تِدْ امباكي -يزور أيضا المنزل لتجديد العهد والروابط بينهما سواء كان الشيخ محمد المرتضى موجودا في المنزل أو غير موجود. 

          وأكد السيد  جو أن الشيخ مرتضى  كان يوكل إلى الشيخ عبد القادر عياله في سفره وحضره وقد كان يسمي أبناءه وبناته، وكذلك يرسل مرضاه من مريده وأتباعه وعياله إلى الشيخ عبد القادر ليدعو لهم، وقال شاهدا وتصديقا لهذا القول : إنه مرض مرات عديدة وأرسله الشيخ محمد المرتضى  إلى الشيخ  عبد القادر لطلب الدعاء، وقد حكى عجائب وغرائب في هذا الأمر وما حدث بين الأخوين من التفاهم والتقارب، وقد ختم كلامه قائلا : إنه يعرف أن الشيخ محمد المرتضى كانت له علاقات طيبة وودية مع جميع الزعماء والشيوخ ؛ ولكن علاقاته ومخالطاته مع  الشيخ عبد القادر كانت أوكد وأوثق وأكثر امتيازا، وأضاف في قوله : أنه تذكر يوما أن زاره الشيخ محمد خبان امباكي وقد أراه الشيخ مرتضى بيت خلوته ومكان اعتكافه وخاصة في العشر الأواخر من شهر رمضان. وتعجب الضيف الزائر بما رآه؛ وعند خروجهما من البيت سارع الشيخ محمد خبان بلبس حذاء الشيخ مرتضى وبادره الشيخ مرتضى قائلا: إن حذاءك هو ذلك الكبير الواسع جدا؛ وهو من باب المزاح الأسرية بين أبناء العمومة والخؤولة وهو عادة معروفة في السنغال، لأنه ابن عمته السيدة فاطمة بنت القاضي مامور هنت سل والد الشيخ أحمد بمب وقد سمى كل واحد منهما ابنا بأخيه وصديقه في الله.

      وقد كان بين الشيخ مرتضى والشيخ عبد القادر صداقة حميمة ودية وأخوية، لكونهما حاملين لواء إحياء السنة المطهرة، كما كل منهما مثلا أعلى لإحياء السنة النبوية صوات الله وسلامه عليه، كانت العلاقة متواصلة بينهما في عشرة طيبة واحترام متبادل وجعل شخصيهما في شخصية واحدة حتى انتقل إلى جوار الباقي القديم بشهر مايو 1990 م، وتولى الخلافة المريدية الشيخ صالح امباكي. 

      أما العلاقة بين الشيخ صالح امباكي والشيخ مرتضى امباكي كانت علاقة طيبة وودية، وقد سمى كل واحد منهما ابنا بأخيه، وكانت بينهما زيارات متبادلة، وقد ذكر السيد -آدم جَوْ-مرباه ومريده في مدينة -بامبي -أنه تذكر مرتين قد زاره الشيخ صالح في بامبي ولم يجد الشيخ مرتضى في احدى المرتين، ولكنه قام بالواجب وما يليق بجانبه حتى عجب الشيخ صالح من تلك الضيافة والترحيب والاحترام، وأخبر أخاه الذي فرح بالأمر أشاد وشكرمريده هذا على هذا التفقد والعناية.

       وقد شاءت الأقدار أنهما الابنان الأخيران من أبناء الشيخ الخديم، ولذلك طلب الشيخ صالح من أخيه أن يأتي إلى طوبى لمشاركته ومؤانسته في إحياء المولد النبوي في المدينة الفاضلة: طوبى المحروسة، وقد كان الشيخ مرتضى يحيي هذا المولد في مدينة -بامبي -منذ سنوات عديدة، وفعلا قد لبى نداء أخيه وجاء لمؤازرته ومؤانسته وعاشا سويا في خدمة الإسلام والمريدين حتى انتقل الشيخ مرتضى إلى جوار ربه أغسطس عام: 2004 م ولحقه أخوه بعد ثلاث سنوات في ديسمبر 2007 م.

وقد لاحظت أيضا أنه في جولاته السنوية التي كان يقوم بها خار ج السنغال دائما قبل أن يسافر لابد أن يزور ضريح الشيخ أحمد بمب، ويزور الخليفة العام للطريقة المريدية الشيخ صالح، وبعد عودته يكررنفس العملية ويتوجه إليهما مباشرة.

        هكذا كان يعيش مع جميع الخلفاء الذين تزامن معهم وكانت بينه وبينهم علاقات طيبة وعشرة ودية واحترام متبادل بين الجانبين، ونفس النتيجة لبقية أبناء وبنات الشيخ الخديم مثل الشيخ محمد البشير الذي علاقاته به قد امتدت إلى أبنائه مثل الشيخ محمد المصطفى بشير الذي لعب دورا ممتازا في مراحل بناء المعاهد الأزهرية بإذن من الشيخ عبد الأحد، وكذلك الشيخ محمد المنتقى الخليفة الثامن والحالي للمريدين وقد سمى به الشيخ مرتضى ابنا، وهو أول من جعله إمامًا وخاصة في الجنائز، وذكر الباحث شيخ عبد الرحمن مصطفى لوح أنه تذكر يوما أن توفيت زوجة عمه وذهب مع أخيه لإبلاغ الشيخ مرتضى الخبر وأمره بالذهاب إلى الشيخ منتقى وإن تعذر فإلى الشيخ عبد الحكيم هكذا كانت علاقته مع الشيخ محمد البشير.

      وكذلك مع الشيخ شعيب وقد سمى كل واحد منهما إبنا  بأخيه، وحينما كنتُ دارسا في مدرسته القرآنية قد وجدني هناك الشيخ مرتضى مرات عديدة لزيارة الشيخ شعيب وتفقده، ونفس العلاقات مع الشيخ عبد الله وقد سمى به ابنا والشيخ إبراهيم امباكي ، والشيخ عبد الصمد، وكذلك علاقات طيبة مع جميع أخواته، وقد سمى كثيرات منهن بنتا من بناته تأكيدًا لهذه العلاقة والأخوة الصادقة والعشرة الطيبة، ولولا خوف الإطالة لأتينا بكثير من تفاصيل علاقات كل واحد وواحدة من إخوته وأخواته الكرام البررة عليهم أجمعين رضوان الله تعالى الأكبر، ونعتقد أن هذه الأمثلة الواضحة والصادقة لكافية لتبرير هذه المقولة والإشارة تكفي للعاقل المتدبر.

     أما علاقاته بأعمامه وعماته، فالاحترام والوقار الواجبات نحوهم، ولكن للأسف الشديد فقد توفي كثير منهم قبل أن يقوم له شأن يذكر، ولكنه استدرك هذا العهد والوفاء بأبنائهم من أبناء الشيخ مام مور جَارَهْ امباكي والشيخ إبراهيم فاط امباكي، والشيخ مصمب امباكي، وسرين شيخ جر، والشيخ بل جر والشيخ هنت امباكي، والشيخ عافية والشيخ حفصة  فقد تأكدت علاقاته مع الشيخ عبد القدوس ابن الشيخ إبراهيم فاط ، وكذلك مع الشيخ الحاج تك بن مام شيخ هنت امباكي، وقد سمى  به ابنا من أبنائه، وكذلك مع الشيخ مصطفى جَيْتُ امباكي بن مام شيخ هنت الذي قد عزم على القيام بالصلاة على جنازته وهو في مرضه الذي لا يكاد يستطيع المشي على قدميه ! وذلك وفاء بالعهد والروابط والعلاقات الطيبة التي كانت بينهما وباختصار كان يبني علاقاته على الأوامر الإلهية لقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم). وقوله تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل).

      أما علاقاته بكبار المريدين فكانت علاقات طيبة جدا كان يزورهم، ويزور المريدين صغارا وكبارا في بيوتهم ويبيت معهم في منازلهم في المدن والقرى والأرياف، وفي بعض الأحيان في ظروف حرجة جدا، وطال ما بات في أماكن غريبة، قد لا يقبل المبيت فيها غيره، ولكنه لا يعبأ بذلك، بل يعتبر الإنسان إنسانا وكائنا محترما ومكرما بغض النظر عن غناه وفقره، بل كان يباشر ويخالط معهم، ويستمع إلى أقوالهم وحوائجهم وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة والمحافظة على العهد الذي جرى بين الشيخ أحمد بمب وبين والديهم أو أجدادهم ويقوم دائما بتوثيقها وتوكيدها وتعزيزها.

أما علاقاته بأحفاد الشيخ الخديم، فهي على شاكلة ما قلناه في علاقاته بينه وبين والدهم، لأنه دائما كان يقوم بتجديد ذلك العهد وإحيائه من خلال تفقدهم وزيارتهم وتخصيص بعض الأيام في السنة لقضائها في منازلهم، وفيما أعلم من الصعب أن تذهب الى بيت من بيوتهم إلا وتجد فيه سميا للشيخ مرتضى، وبعضهم قد سمى به بعض أبنائه من أمثال الشيخ سرين امباكي مدينة وسرين شيخ غيد فاتم.

علاقاته خارج الطريقة المريدية

         أما علاقاته بالزعماء الآخرين، فعلاقات طيبة بناء على الأخوة الإسلامية، والدليل على حسن علاقاته معهم توقيعهم على الرسالة التي كتبها له الشيخ محمد الفاضل باسمه وباسم الطريقة المريدية إلى الحاكم الفرنسي في مدينة -سين لويس اندَرْ-لطلب استخراج تصريح رسمي لإقامة معاهد دينية في الوطن.

     أصبحت تلك الرسالة وثيقة رسمية بموافقة وتوقيع كل من الشيخ محمد البشير بن الشيخ الخديم، نائب الخليفة المريدية، والشيخ أحمد امباكي الابن الأكبر للشيخ محمد المصطفى والشيخ عبد العزيزسِهْ الدباغ، خليفة الطريقة التيجانية، وتذكرت أنه عند وفاة الشيخ عبد العزيز سه رضي الله عنه كان في طريقه للسفر، ولكن قد ترك ذلك السفر وذهب الى مدينة – تيواوون-لتقديم تعزيته.

         والشيخ سعيد نور طال خليفة العمريين، والشيخ أبو محمد الكنتي، خليفة الطريقة القادرية، والشيخ إبراهيم نياس الكولخي ممثل زاوية أهل نَجَسِينْ، وكانت الزيارات متبادلة بينه وبين هؤلاء الشيوخ الكرام على الأخوة الإسلامية، والقرابة الطينية والمعايشة الوطنية، ولو لم تكن علاقاته معهم غير طيبة، قد لا يؤيدون مشروعه لإقامة المدارس الإسلامية في السنغال رغم صغر سنواته آنذاك، بالمقارنة مع هؤلاء السادة الأكابر، والزعماء الكرام عليهم أجمعين رضوان الله تعالى الأكبر.

        أما علاقاته بزعماء المسلمين فعلاقات طيبة جدا للأخوة الإسلامية، والتضامن والتآزر الواجبين بين المسلمين لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان.) وقوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).

      والآيات والأحاديث الدالة والآمرة كثيرة بهذا الصدد في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، فقد كانت له علاقات مع زعماء مسلمين يحتلون مراكز مرموقة في دولهم ؛ ومنهم رؤساء الدول مثل الرئيس الغيني - أحمد سيكو طوري، والرئيس الموريتاني : معاوية ولد أحمد الطايع الذي قطع وخصص له أرضا في  نواكشوط العاصمة ، ليقيم معهدا إسلاميا هناك والرئيس الغابوني- الحاج عمر بونغو،  الذي كتب رسالة عزاء بعد وفاة الشيخ، وتدل على متانة هذه العلاقة وثقته به في كثير من أموره الخاصة ؛ والرئيس الليبي : معمر القذافي  الذي كان ينوي إقامة معاهد عالية، وجوامع، وقاعة المؤتمرات باسم :عمر المختار، وقد تمت الموافقة لإرسال المبالغ اللازمة في السفارة الليبية في  دكار ، وقيل إن المبالغ قد وصلت فعلا، ولكن سعى المفسدون والمبطلون لعرقلة هذا المشروع الحيوي مع تواطؤ ومشاركة الدولة التي كانت تعرقل وتحارب التعليم العربي الإسلامي في السنغال في ذلك الوقت ، بدليل علمانية الدولة بل بإملاء من زعمائهم وقواعدهم الذين يمثلونهم في الأراضي التي استعمروها من قبل بالقوة والجبروت والغصب

        كما كانت له علاقات طيبة مع الأزهر الشريف في جمهورية مصر العربية، ولبنان، والكويت، والعراق، والسعودية، والمغرب وليبيا، وموريتانيا، حيث زار هذه البلدان مرات كثيرة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقابله منها زعماء دينيين كثيرين وزعماء سياسيين متعددين في هذه البلاد، مما يؤكد على حسن علاقاته مع هؤلاء القادة والزعماء المسلمين خارج السنغال.

       وقد زار جمهورية مصر العربية سنة 1987 م بدعوة من الأزهر الشريف، وقد اجتمع بزعماء الطرق الصوفية الذين وصل عددهم 70 زعيما، وشيخ طريقة في منزل الدكتور أبي الوفاء الغنيمي التفتازاني، الذي كان نائب رئيس جامعة القاهرة، ورئيس مشيخة الطرق الصوفية في مصر، وقد أمهم الشيخ محمد المرتضى امباكي صلاة العصر في منزل الدكتور شيخ المشايخ وعقدوا جلسة مناقشات فيما بعد وباختصار فهذه حفنة قليلة ومثال حي من حسن علاقاته مع سائر المسلمين ومع الناس عليه رضوان الله تعالى الأكبر.

          ومما يؤكد على أن هذه العلاقات علاقات إيمانية وإسلامية فقط، وفي سنة 1979 مـ

         قد قرر الشيخ مرتضى السفرمن جديد إلى كل من المملكة العربية السعودية، مصر، إيران، المغرب ، ليبيا، واستقبله رئيس الدولة في القصر الجمهوري وهو وقتئذ - لِوْ بُولْدُ سِنغُورْ- وقد رافقه في هذه المقابلة الشيخ  مصطفى لَيْ، مدير معهد الأزهر اندام سابقا، وكذلك السيد مِدِ يكِي وَادْ المنسق العام لمناسبة 5 سبتمبر في - سين لويس- لإحياء ذكرى ركعتي الشيخ الخديم في مكتب الحاكم العام في مدينة سين لويس وكان يرافقهم إلى مكتب الرئيس - جِيبُو لَيْتِي كَاهْ - وبعد دخول الشيخ قام الرئيس مبتسما ومرحبا به وتصافحا وأثناء تبادلهما الكلمات القصيرة سلمه الشيخ رسالة أعدها وبين فيها أهداف الزيارة ومنها : رغبته في أن يقوم برحلة إلى هذه البلاد.

            ومثل هذه الجولة تحتاج إلى إعداد بروتوكولات مسبقة كرسائل تزكية ترسل إلى ملوك ورؤساء هذه الدول، وفور إطلاع الرئيس -لِوْ بُولْدُ سِنغُورْ-قد وافق على سفره إلى السعودية ومصر والمغرب. ولكن لم يوافق على سفره إلى إيران وليبيا لأمور سياسية، وبمجرد شعور الشيخ أن الرئيس لم يوافق على فكرة سفره إلى ليبيا، لأمور سياسية آنذاك، قاطعه بقوله: فافعل ما شئت! علاقاتنا بهاتين الدولتين علاقات إسلامية وإنسانية، إذا كان سفرنا مما جرى به القلم فسيتم بإذن الله في المستقبل

         وقد تم فعلا هذا السفر بعد ذلك بقليل، وقد تلقى الشيخ مرتضى الدعوة لزيارة ليبيا من الأمين العام لجمعية الدعوة الإسلامية العالمية الدكتور أحمد محمد شريف وقد رافقه في هذه الزيارة نجله وسكرتيره الأخ قاسم امباكي ومدير معهد الأزهر آنذاك محمد المصطفى لَيْ، وقد استقبل فضيلة الشيخ محمد المرتضى العقيد معمر القذافي في استراحته في بنغازي بتاريخ 23/ 02/1410 هـ الموافق 24/09/1989 مـ.

         ومن نتائج تلك الرحلة تعيين الجماهيرية يومئذ أحد عشر مدرسا كانوا يعملون في معاهد الأزهر حتى زمن الحصار الدولي على ليبيا، كما قام فضيلته بزيارة مماثلة لجمهورية إيران الإسلامية وقد استقبله الرئيس علي أكبر رفسنجاني والتقى بعدد من الشخصيات الدينية وكان من ضمن مرافقيه الأخ مصطفى جتر أمين مكتبة الشيخ الخديم حاليا وكان في ذلك الزمن مفتشا عاما للمعاهد الأزهر

          وأما الدول الثلاث التي وافق الرئيس على زيارتها فقد كان الشيخ مصطفى لَيْ عضوا من أعضاء الوفد المرافق لسماحته في تلك الزيارة وهي: السعودية، مصر، المغرب.

       فإن تلك العلاقات الإيمانية مازالت دائمة ومستمرة ومما أسفرت عنها: أن مؤسسة الأزهر هي أول مؤسسة في السنغال استقبلت بعثة أزهرية عام 1975 م. ضمت ثلاثة مدرسين أوفدتهم جامعة الأزهر، واستقروا في معهد الأزهر الأم بطوبي لمدة أربعة أعوام تلتها بعثات أخرى في معاهد: كاولاخ، بامبي، سين لويس، تياس، بنجونا.

       وقد زار مقرها كل من: المرحوم الدكتور عبد الحليم محمود عام 1976 م وشيخ الأزهر الأسبق المرحوم فضيلة الدكتور محمد الطيب النجار 1982 مـ والدكتور علي جاد الحق شيخ الأزهر عام 1994 مـ.

أضف إلى ذلك أنها كانت تتمتع بمنح دراسية سنوية وكتب منهجية مقررة.

        أما المغرب فإن آخر الزيارات التي قام بها الشيخ محمد المرتضى إليها في عامي 1999 م، 2001 م، حيث استقبل بحفاوة كبيرة والوفد المرافق له بمقر الوزارة، وعلى إثر هاتين الزيارتين قامت وزارة الأوقاف بخطوات هامة لدعم مسيرة المؤسسة خاصة في:

- تزويد مكتبات المؤسسة بأهم الكتب الإسلامية والثقافية المتنوعة المتوفرة لديها بما فيها محاضرات الدروس الحسنية الرمضانية باللغات العربية والفرنسية والانجليزية وأشرطة الفيديو المسجلة فيها الدروس.

- تحمل رواتب بعض المدرسين السنغاليين بالأزهر وعددهم:11 وذلك من خلال مكتب رابطة علماء المغرب والسنغال بدكار.

         أما علاقاته مع موريتانيا فقد أوفدت الحكومة الموريتانيا بعثات للمؤسسة عددهم 14 مدرسا على نفقاتها الخاصة ويعملون في المؤسسة.

  وكان يزورها سنويا وكان له منزل هناك، وله علاقة طيبة مع كبار العلماء والشيوخ هناك.  

 

 

 

اهتمام الشيخ محمد المرتضى امباكي بالدعوة إلى الإسلام

وقد علم الشيخ محمد المرتضى مبكرا أن الدعوة إلى الله واجب على كل مسلم، كل على قدر استطاعته وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين والصالحين من عباد الله، وأن ما يزيد انتشار رقعة الإسلام هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونشر تعاليم الإسلام، ليعلم الناس حقيقته ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان، وأنه لا تستقيم حياة الناس في دنياهم وآخرتهم إلا بالالتزام بأوامر الله واجتناب نواهيه، لذلك قد قضى الشيخ محمد المرتضى حياته كلها في الدعوة إلى الله، ولا غرو في ذلك لأنه قد تربى ونشأ على ذلك وحذا حذو والده الشيخ الخديم ، الذي قد بذل النفس والنفيس في الدعوة إلى الله وجاهد في الله حق جهاده من أجل الإسلام ونشر تعاليمه، وعبادة الله تعالى لذلك قد أشار في إحدى قصائده:

فيك أنادي    كل البلاد         لذي العباد        باني الغماء

وقوله رضي الله عنه:

                    إني أخاطب النصارى طرا      في أرضهم لمالك مضطرا

          وفي هذا الأبيات التي أشار إليها الشيخ الخديم في منهجه الدعوي قد طبقه الشيخ مرتضى عمليا في تبليغ رسالته الدعوية نيابة عنه في كثير من بلدان العالم، لذلك ينبغي أن نتعلم فيما يلي أسلوب الشيخ محمد المرتضى في الدعوة ومنهجه فيها من خلال التربية والتعليم ومن خلال الجولات التي كان يقوم بها داخل السنغال وخارجه.

نشاطاته الدعوية من خلال التربية والتعليم

        وقبل التعرض لبيان اهتمام الشيخ محمد المرتضى امباكي بالدعوة إلى الله ومنهجه فيها من خلال التربية والتعليم ومن خلال تنقلاته، ينبغي أن نتعرف أولا أهمية الدعوة ومكانتها، وكيف يجب على الداعي الثبات عليها في أزمنة الفتن والتضييق لذلك ينبغي أن نتناول فيما يلي:

ا – أهمية الدعوة إلى الله ومنزلتها.

ب – حكم الدعوة إلى الله.

ج – كيف يجب على الداعي الثبات عليها.

أولا أهمية الدعوة الى الله:      

         فحاجة الأمة إلى الدين كحاجة الجسد للروح، فكما أنه إذا خرجت الروح عنه فسد الجسد، فكذلك الأمة إذا فقدت الدين فسدت دنياهم وأخراهم، والإنسان بلا دين كالعلبة الفارغة لا قيمة له، وإذا حرم الناس من الدين الحق صاروا كالحيوانات في الشهوات، وكالسباع في الفساد، وكالشياطين في المكر والكيد والشر.

        ولهذا احتفى الله بهذا الإنسان، وكرمه على غيره فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وزوده بآلات العلم وهي السمع والبصر والعقل، وجعله خليفته في الأرض، ورغب المسلم ليدعو غير المسلم ليكون مسلما، ليكون الدين كله لله، وليعبد الناس كلهم ربهم ويوحدوه.

    ولأجل هذه العبادة أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليبينوا للناس كيف يعبدون ربهم، وكيف يوحدونه، وليبينوا لهم المنهج الذي شرعه الله تعالى لعباده (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما).

ومن فضائل الدعوة الى الله أنها وظيفة الرسل والأنبياء، وهي من أعظم الأعمال التي يؤديها المسلم في حياته، ويحتسبها لأخراه.

ومنها أن الله تعالى قد تولاه بنفسه فقال جل وعلا: (والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).

ومنها أنها وظيفة الأنبياء والمرسلين فقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).

الدعاة إلى الله هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، وقد كلفت هذه الأمة بما كلف به رسولها، وقد ورثوا هذه الدعوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلكوا طريقه فكانوا حقا أتباعه وحملة رسالته قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين).

       أمر النبي ص أمته بالدعوة إلى الله كل بحسب استطاعته فقال ص: {بلغوا عني ولو آية}.

بالدعوة إلى الله نالت هذه الأمة الخيرية، فكان لها السبق على سواها من الأمم، قال تعالى 🙁 كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

الدعوة إلى الله من أعظم الأعمال التي يحبها الله فقال تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين).

       ويقصد بالدعوة إلى الله الدعوة إلى دينه الإسلام، إلى العقيدة الصحيحة، وهو التوحيد بإخلاص العبادة لله تعالى في العبادة وإلى ما افترضه الله تعالى من فرائض من صلاة وزكاة وصوم وحج وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وما شرعه الله تعالى من العبادات والمعاملات والنكاح ومكارم الأخلاق والجمع بين كلمة المسلمين والتأليف بينهم وفهم آيات الله والعمل بها في كل نواحي الحياة لقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، وسبيل الله هو الإسلام.

     ومن فضل الدعوة ومنزلتها أنها يتحقق بها مقصود الله من خلقه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فالدعوة أم الأعمال، وبها تحيي الفرائض والسنن، وبها يحيى الدين كله في العالم وهي أعظم الوظائف، والعبادة أعظم الأعمال.

ووظيفة الدعوة إلى الله كوظيفة الملك، وبقية الوظائف كوظيفة من دونه من العمال والخدم، وكثير من الناس اشتغل بوظيفة الخدم، وترك وظيفة الأنبياء والمرسلين من الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم.

قال تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين).

ثانيا: حكم الدعوة إلى الله

           حكم الدعوة إلى الله واجب على كل مسلم ومسلمة، كل بحسب علمه وقدرته، ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، فهي مسئولية الأمة جميعا، وهي كذلك حاجة الأمة جميعا، لأنها من أعظم أسباب الهداية، وزيادة الإيمان وكثرة الأعمال. قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين).

      وقوله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).

وقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.)

ثالثا: كيف يجب على الداعي الثبات عليها.

      ويجب على المسلمين تحمل مسئولية الدعوة والثبات عليها للاقتداء بأصحاب النبي – ص – والتابعين من بعدهم فتركوا ديارهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم ليبلغوا دين الله، ففتحوا البلاد بالحجة والبيان قبل السيف والسنان، ووصل الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها، وعلى ذلك فكل مسلم يريد أن يكون من أتباع النبي – ص – فعليه أن يسلك نفس السبيل في الدعوة إلى الله.

وينبغي على الداعي أن يتوفر فيه الأوصاف الآتية:

  • العلم قبل الدعوة
  • اللين مع الدعوة
  • الصبر بعد الدعوة

والدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر إيجابي مليء بالثبات والتحمل، وعدم المسارعة إلى رد فعل حماسي غير مدروس العواقب، وذلك عملا بمنهج الأنبياء والرسل.

وبالتأمل إلى النصوص السابقة من أهمية الدعوة ومنزلتها وحكمها، وذكرنا بأن الداعي يجب أن يتسلح بالعلم قبل أن يقوم بعملية الدعوة، لذلك نجد أن العلم له مكانة مرموقة في الإسلام عموما، وفي تعاليم الشيخ الخديم خصوصا ، فكل من يقرأ سيرة الشيخ الخديم يجد فيها مثال العالم الرباني الذي جعل إحياء العلوم ونشرها في المجتمع همه الأول، وشغله الشاغل من بواكير حياته إلى أن التحق إلى رحمة ربه تعلما وتعليما قراءة وإقراء، تأليفًا وتصنيفا، نظما ونثرا، وكان ينظر إلى العلم باعتبار أنه نور رباني ومعيار الخيرية والأفضلية، وأداة ناجعة في  إيصال السالك إلى ربه، ووسيلة فعالة في التجديد والإصلاح والتغيير وسلاح قوي في مواجهة العدو المستعمر، فلا اعتبار لغير العلم والعمل به من المعايير الاجتماعية والاقتصادية كالانتساب إلى الطبقات الراقية، والدماء العريقة النبيلة وبما أن العلم نور إلهي، يقذفه في قلب العبد، فينتج له هداية وشرفا، فقد رأى أنه خير وسيلة لتحقيق السعادة في الدنيا والاخرة، وقال :

والعلم والعمل جوهران          لغيري الدارين يجلبان

ومن حيث أنه يعد العلم خير وسيلة لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة فقد رأى أن يستعمله وسيلة فعالة في مشروعه الإصلاحي ومهمته في تجديد الدين، ومعلوم أنه آثر في عمله الإصلاحي أن ينتهج منهج الثورة السلمية، والتغيير الهادئ العميق، الذي يقوم على إحداث الانقلاب الفكري والنظري في تصورات الناس وسلوكهم، أي تغيير أفكار الناس، وطبع عقائدهم ومشاعرهم وأخلاقهم، وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم بطابع الإسلام ونظرته الروحية الشاملة، وهذا ما يسميه الشيخ بمنهج " الجهاد بالعلوم وبالتقى " وإصلاح نظام التعليم والتربية، وإصلاح العلوم والمعارف الإسلامية الصحيحة بغية الوصول إلى بعث العقلية الإسلامية الخالصة من جديد في نفوس الأجيال المتتالية، ورأى الشيخ الخديم ببصيرته الثاقبة أنه لا يمكن مواجهة هيمنة الدول المستعمرة بالأسلحة التقليدية، وأن خير وسيلة لمواجهتها السهر على تربية الأجيال وتعليمها، فوجه كل اهتمامه إلى تزويد أتباعه بالمعارف الضرورية قال في قصيدة رد بها على المستعمر حين اتهموه بحيازة الأسلحة:

             ومقالكم إني أجاهد صادق        إني لوجه الله جل أجاهد

             إني أجاهد بالعلوم وبالتقى         عبدا خديما والمهيمن شاهد

      فهذا الاختيار يؤكد بوضوح المكانة الرفيعة التي يحتلها العلم في مسيرة المريدية كما يدل على وعي الشيخ المبكر بخطر الغزو الثقافي والفكري وضرورة تقديم مجابهته على كل عمل دعوي آخر.

       فقد كان الشيخ على علم بأن المستعمر حين دخوله البلاد، لم يكن يهمه ثروات الأرض وكنوزها فحسب، بل كان يدرك سعيه الحثيث إلى السيطرة على القلوب والعقول فسارع إلى مقاومته في هذه الجبهة الخطيرة بسلاح العلم والتقوى الذي يكسب المريدين مناعة تحصنهم من كل وباء فكري أو ثقافي.

       هذه هي الأسلحة المعنوية التي كان يستخدمها الشيخ في حربه موازية مع الأسلحة المادية التي كان يستعملها العدو الغازي، لكن الشيخ تمكن من قهر العدو وهزيمته بهذه الأسلحة التي ما تزال موجودة في أيد المسلمين ، لذلك نجد أن الشيخ محمدا المرتضى قد أدرك مبكرا هذه الأهمية البالغة، ورسالة والده الجهادية في تربية النش ء وتعليمهم ومسئوليته تجاه ذلك وشمر عن ساعد الجد لإكمال وتحقيق رغبة والده لذلك قد كرس حياته و لعب دورا هاما في الدعوة إلى الله من خلال التربية والتعليم وأنشأ مؤسسة الأزهر الإسلامية التي تعتبر هي أكبر مؤسسة إسلامية تعليمية في السنغال، ومن أبرز إنجازاته في مجال التربية والتعليم.

       ولم يكن الشيخ محمد المرتضى مجرد داعية فحسب، وإنما كان ممن كرسوا حياتهم لخدمة السنغال تربويا وإنسانيا، وهو رجل ذو مشاعر إنسانية نبيلة فهو صاحب القلب العطوف واليد السخية التي لا تقطر إلا بالحنان، ولا تفيض إلا بالعطاء الجزيل، فإن بداية إنشاء هذه المؤسسة لم تكن سهلة، بل كانت صعبة للغاية لأن الإمكانيات لم تكن متوفرة في ذلك الوقت، ولم تكن هذه الفكرة مألوفة في البيئة التي كان يعيش فيها وطالما يكون للشيخ هذا الحلم وهذه الفكرة والأمنية.  وحينما بدأ تراوده فكرة إنجازها وتحقيقها وتنفيذها على حيز الوجود قد ذهب يوما مع ابن شقيقته الشيخ مصطفى عبد الرحمن لوح إلى الشيخ محمد الفاضل امباكي الخليفة العام للطريقة المريدية آنذاك للمشاورة معه في هذه المهمة، وطلب الإذن منه لبداية إنجازها، وقد فرح الخليفة الشيخ محمد الفاضل جدا بهذا الطلب وهذه الهمة العالية! وقال له: هذا واجب، إنك وكيلنا في هذا الأمر وهذه المهمة! ويمكن لهذا الغلام الذي رجع مؤخرا من موريتانيا أن يساعدك فيها. وكان يشير إلى ابن أختهما – مصطفى عبد الرحمن لوح – ثم أضاف قائلا: هذا الولد قد نصب الشيخ الخديم والده لهذا الغرض. وقد سأل الشيخ محمد الفاضل عن الكيفية التي يريد أن يساعده فيها، وقال: الشيخ مرتضى نطلب إذنك كتابيا ودعواتك ظاهرا وباطنا، وفي الحال دعا الشيخ -محمد الفاضل -أمينه دام درامه حيث كتب رسالة وباسمه شخصيا إلى الحاكم عن الحكومة الفرنسية المستعمرة في اندر وبعد ختم الرسالة سأله الشيخ: هل يفضل أن يرسلها بالبريد أم يحملها إلى الحاكم العام؟ قد اختار الشيخ محمد المرتضى حمل الرسالة شخصيا إلى الحاكم في اندر وكان ذلك في سنة 1957 م.  قد دعا لهما الشيخ محمد الفاضل بالنجاح في هذه المهمة! ثم ذهب الشيخ محمد المرتضى إلى كثير من الشيوخ ليوقعوا على هذه الرسالة للدلالة على موافقتهم على هذا المشروع ، فذهب إلى الشيخ محمد البشير بن الشيخ الخديم  ليوقع عليها ، وكذلك إلى الشيخ أحمد امباكي محمد المصطفى ، والشيخ  عبد العزيزسه، والشيخ سعيد نور طال ، والشيخ  أبي محمد الكنتي،  والشيخ  إبراهيم نياس، الذي دفع عشرة أطنان من القمح مساهمة منه في هذا المشروع ، وكانت هذه الخطوات والتوقيعات إشارة واضحة بكون هذه المؤسسة – مؤسسة الأزهر الإسلامية – لجميع المسلمين والمسلمات ؛ ولتكون حجة على الحاكم أن زعماء الطرق قد وافقوا على هذا المشروع الإسلامي كي لا يتذرع بالإشارة إلى أنني لا أستطيع قبول هذا المشروع للمريدية وأرفضه للتيجانية أو القادرية – كما كان دأب الحكومات في المراوغة والمماطلة – وخاصة أنهم كانوا يسعون لتعلم الطلاب آنذاك  في معهد  بوتلميت في مورتانيا ، وبعد توقيع كثير من زعماء الطرق والشيوخ تم تحويلها إلى الحاكم في  اندر  سنة 1957  م وجاء الرد من الحاكم في  اندر بواسطة  الحاكم الإقليمي في امباكي بول - مومانداله شاريو- وهو قائد كان سمعه ضعيفا جدا.  كانت الموافقة سنة 1959 م وبدأت حركات في هذه السنة نحو إقامة هذا المعهد، ويعمل جاهدا لإقامته وتحقيق هذا العمل العملاق وقام برحلات واتصالات داخل الوطن وخارج البلاد حتى تم التدشين والافتتاح في سنة 1975 م.  وقد زار المعهد الرئيس سنغور في 21/ 01/ 1978 م بعد الإذن من الشيخ عبد الأحد الخليفة الذي تحمل تكاليف الضيافة والزيارة.

    قام الشيخ محمد المرتضى باستخراج الاعتراف الرسمي للمعهد من الحكومة السنغالية التي كانت تضع بعض العراقيل بحجة إدخال العلمانية لكون الدولة دولة علمانية. ولكن بحمد الله تم الاعتراف بعد جهود مضنية وخطوات جريئة قام بها الشيخ محمد المرتضى والشيخ مصطفى عبد الرحمن لوح بالتعاون مع عبد القادر فال وزير الثقافة آنذاك الذي وضح للشيخ مصطفى عبد الرحمن لوح كيفية الخروج من مراوغات سينغور الذي عزم في جلسات متعددة أن لا يكون لهذا المعهد اعتراف رسمي إلا بإدخال التعاليم العلمانية.  كما أن المعهد لا يتمتع بأي دعم أو مساعدة من حكومته، نصحه الوزير المذكور بضرورة تعيين نائب مدير مثقف بالفرنسية وعلى الأقل على مستوى الجامعة أو الليسانس لتكون الحكومة على معرفة من أنشطة المعهد، كما أن هذا النائب للمدير يكتب تقارير للوزارة المعينة بشأن هذا المعهد، وفعلا قد عين الشيخ مصطفى عبد الرحمن لوح صالح امبوب ليكون نائب رئيس المعهد.  وبعد الافتتاح والاعتراف الرسمي، مازالت جهود الشيخ محمد المرتضى متواصلة وسفرياته داخل وخارج السنغال لضمان استمرارية المعهد في دوره لنشر الثقافة الإسلامية بين أبناء المسلمين. ومما يدل على فكرته الرائجة ونظريته الثاقبة إقامة هذه القلعة العلمية في ظروف حرجة وضيقة جدا لمسابقة الزمن ومواكبة العصر، ما كان يقوله بأن المهم في الحياة أداء الواجبات لا العيش فقط. وعلى ذلك يمكن تعريف المؤسسة بأنها:

             مؤسسة إسلامية ثقافية اجتماعية معترف بها من قبل الحكومة السنغالية تحت الرقم 78-11-73 بتاريخ 15/12/1978 م. وهي تعنى بالتربية والتعليم، وتعتبر من حيث الحجم ومدى انتشارها الجغرافي من أكبر المؤسسات الأهلية التي تعمل في هذا المجال في غرب إفريقيا، وقد أسسها المجاهد الكبير الشيخ محمد المرتضى أصغر أبناء الشيخ الخديم، بجهوده الخاصة والسهر المستمر على تمويلها.

            وقد افتتح أول معهد لها بتاريخ:27 أبريل 1975 م في دار العليم الخبير جنوب طوبى، ثم توالى الافتتاح في كثير من المدن والقرى السنغالية.

      وقد قامت المؤسسة بدور رائد في نشر العلم والمعرفة والتعليم العربي الإسلامي، وتجدر الإشارة إلى أن للمؤسسة فروعا خارج السنغال، ففي عام 1994 م تم افتتاح فرع للمعاهد الأزهرية السنغالية في أبيدجان عاصمة كوت ديفوار، وتلته فروع الكامرون وإيطاليا، وفرنسا وأمريكا، حيث توجد مراكز ومجالس علمية يشرف عليها مثقفون تخرجوا في الجامعات العربية، وهم موفدون من قبل المؤسسة للعناية بالشؤون الدينية للمهاجرين وأسرهم.

ومن أهدافها: تنظيم لقاءات فكرية ثقافية، وإصدار مجلات ودوريات ثقافية، حيث أن الشيخ محمدا المرتضى قد ركز كل حياته في تبليغ رسالة النبي – ص – عملا بالآيات والأحاديث المذكورة آنفا، وبمنهجه الخاص كان يرى أن الأسلوب الأنسب في الوقت الراهن للدعوة إلى الله منها نشر العلم والثقافة الإسلامية، وتربية النشء تربية إسلامية صحيحة، لأن يعيشوا دينهم أينما كانوا، ويعلموه غيرهم.

        وقد أشار والده الشيخ الخديم رضى الله عنه إلى وجوب تقديم العلم على العمل والتربية قبل الدخول في أي شيء فقال:

           يا معشر الشبان إن خفتم خجل       فقدموا تعلما على عمل.

       ولذلك قد أسست المعاهد الأزهرية لأغراض خاصة وأهداف معينة.

     وأهداف المؤسسة من البداية إلى النهاية على سبيل الإجمال: هي إقامة شعائر الدين، وتبليغ رسالة الإسلام في الأفق والأوطان، لأنه لا يخلو أي عمل ذي بال يراد له أن يحتل مكانته في صفوف الأعمال المثمرة من تصور واضح للهدف أو الأهداف التي من أجلها يقام به.  فإن مؤسسة الأزهر باعتبارها أكبر مؤسسة تعليمية

نشاطاته الدعوية من خلال تنقلاته

      وإذا عمقنا النظر في التنقلات والأسفار التي كان يقوم بها الشيخ محمد المرتضى امباكي سواء داخل السنغال أو خارجها، نجد أنها لم تكن مجرد أسفار لكسب المال أو لغرض دنيوي، وإنما كان يقوم بها لغرض الدعوة إلى الله، ولإكمال أمنية والده الشيخ الخديم في توسيع رسالته الدعوية والتجديدية كما قال الشيخ الخديم:

دين سوى إسلامه لا يحمد     عند الإله وبه نجدد

         لذلك قد رأينا أن البلاد التي كان يسافر إليها يترك فيها بصمات واضحة وآثارًا دينية ملموسة، ويدخل الكثير من الناس في الإسلام على يديه، ويتضح ذلك أكثر لو سافرت إلى البلاد الأفريقية المجاورة كغامبيا وساحل العاج وكامرون وغيرها، ناهيك عن البلاد الأوروبية والأمريكية. فمثلا لو اكتفى بما قدمه للإسلام من الأعمال الجليلة في ساحل العاج لكفى شرفا من تنظيم الجالية المريدية والسنغالية، وتوحيد كلمتهم، وفتح المدرسة التي يتعلم فيها أبناء المسلمين هناك، ومن دخلوا في الإسلام على يديه من أبناء هذا البلد، وحث المريدين على إقامة دور للإسلام هناك وغيرها من الأعمال التي يصعب ذكرها. 

         وكذلك نجد مثل هذا في بقية البلاد في أفريقيا والعالم، ففي سنة 1989 م قد قام الشيخ محمد المرتضى في أول زيارة له للولايات المتحدة الأمريكية، ووصى المسلمين وخصوصا الجالية المريدية هنالك بإيجاد مركز إسلامي لتعليم وتربية أبنائهم تربية إسلامية صحيحة، وكان يزورها في كل سنة، ويحثهم على ذلك!  وقد وفقه الله بسبب هذه الزيارات المتكررة التي كان يقوم بها أن خصص حاكم نيويورك يوما خاصا للشيخ الخديم وهو الأول من نوعه في 28/07 في كل سنة، وصمم الشيخ وعزم على الحصول على المركز، بعد محاولات أخفق معظمها، وأخرج من جيبه الخاص مبلغ ( 50,000 ) خمسين ألف دولار أمريكي لتحقيق هذا الغرض ليكون في حيز الوجود ! وحيرت هذه الفكرة والخطوة كثيرا من الأمريكيين، حيث قال بعضهم: نحن عهدنا بالعالم الثالث أن يأخذوا منا وليس أن يعطونا، فهذا غريب جدا؛ هذا الرجل يدفع هذه المبالغ؛ ألم يكن من الأفضل له أن يستثمره لنفسه أو لعياله، نعم قد استثمر الرجل في الله وفي الآخرة، وفي الدنيا الفانية! وجاهد حتى أقام هذا المركز في نيويورك بحي – مانهاتن -ويضم المركز مساكن ومسجدا جامعا يؤدى فيه صلاة الجمعة والفرائض الأخرى، ومأوى للغرباء لفترة من الزمن، وبإقامته للمركز في هذا الحي الساخن، تحول كثير منهم إلى مواطنين عاديين، بعد أن كان كثير منهم مجرمين خطرين؛ واعتنق بعضهم الإسلام، يؤدون فرائضهم وشعائرهم الدينية في المسجد الجامع بالمركز.

وللبرهنة على ما قلناه آنفا، نأتي بالوثيقة الرسمية التي أصدرتها السلطات الأمريكية للإعلان باليوم الثقافي المخصص للشيخ أحمد بمب:

{ورقة الإعلان باليوم الخديمي في نيويورك مترجمة إلى العربية}.

 

"كونجرس الولايات المتحدة

مجلس النواب

واشنطن دي سي 20515

                               إعلان!

لماذا؟  الشيخ أحمد بمب امباكي في طوبى السنغال غرب إفريقيا واحد من أهم القادة الممتازين والبارزين لهذا القرن.

لذلك نفتخر بذكرى أعماله الخالدة، وإنجازاته المتعددة لصالح الشعب الأفريقي والثقافة العامة.

لهذا السبب: أتى ابنه الأصغر الشيخ محمد المرتضى من طوبى السنغال إلى هارليم لزيارة الآلاف من أتباعه ومحبيه.

 عندئذ: الجماعة السنغالية المريدية وسكان هارليم   يفتخرون وينتهزون هذه الفرصة لاستقبال وتحية هذا القائد العظيم الشيخ محمد المرتضى امباكي.

وبالسلطة التي سمحها لي القانون؛ وبقدرتي كعضو في الكونجرس ممثلا القسم السادس عشر من أقسام الكونجرس مدينة نيويورك أعلن يوم الخميس: 28/07/1988 يوم الشيخ أحمد بامبا في هارليم   التوقيع:

               تشارلش بي رانجل عضو الكونجرس الأمريكي"

     وقد حذت حذو بلدية نيويورك مدن أخرى في إيجاد أيام خاصة للشيخ الخديم مثل واشنطن العاصمة، ولوس أنجلس وغيرها في كثير من الولايات والمدن في الولايات المتحدة. وفعلا قد نجح الشيخ محمد المرتضى في مهمته، وكان بعض الأمريكيين يفتخرون بأنهم لا يستوردون ثقافة أو عادات بلد ولو إنجلترا مستعمرتهم السابقة! وبجهود الشيخ محمد المرتضى قد بدأت جامعة لوس أنجلس بتدريس المريدية ومؤسسها الشيخ الخديم في سنة 2004-2005 م، كما قام أستاذ كبير بعرض ثقافي عن المريدية وثقافتها وبعض إنجازاتها، وذلك لمدة أكثر من شهرين في نفس الجامعة.

        وتقام محاضرات سنوية في قاعات بل في أكبر القاعات في مقر الأمم المتحدة عن المريدية ومؤسسها، ويؤذن ويصلى فيها! إن هذا لنصر كبير للمريدية وللإسلام بعد أن كان الغرب يصف وينظر إلى الإسلام بعين الإرهاب والمسلمين بالإرهابيين!

لقد أفهم الشيخ مرتضى للغرب أن الإسلام دين سلم لا حرب؛ والمسلمون طيبون، ليسوا مجرمين ولا سفاكي دماء، وذلك بالحكمة والسلوك القويم والعمل الصالح، حتى إن مراسل بي بي سي في أمريكا الذي زار المركز الإسلامي في نيويورك ورأى ما رأى أشار إلى: (أن الإسلام الذي رأيته لدى المريدين إسلام يمكن أن يتعايش مع المجتمع الدولي دون إزعاج أو الإضرار به). 

فالإسلام دين واحد، إنما السلوك هو الذي يميز ويحدد اتجاه المنتمين به، وليس بأديان مختلفة.

        وهذا السلوك القويم من المريدين قد أدى كثيرا من الأمريكيين من شتى الطبقات من بيض وسود وغني وفقير إلى اعتناق الإسلام.

 وبالنسبة لأوروبا، فقد قام الشيخ نفس العملية، فقد زار فرنسا في سنة 1990 م وأمرهم بإيجاد مركز إسلامي للجالية المسلمة التي تعيش هناك.

 واجتهد المريدون في تحقيق ذلك حتى حصلوا على المركز في العاصمة الفرنسية باريس.

        وقد زار إيطاليا أيضا في شهر مايو سنة 1991 م وكرر نفس الأمر الذي أمر به المسلمين في باريس، ووصى المريدين بضرورة إيجاد مركز إسلامي يتعلم منه أبناء المسلمين ومن سيولد منهم في هذه الأراضي.  وقال بكلمات واضحة جدا: إني آمركم بالاتحاد وجمع ريحكم لقوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فالأموال التي تجمعونها فأنفقوها في سبيل الله لإيجاد مساجد ومراكز إسلامية للتعاون على طاعة الله ورسوله.

     وقد كرر هذه الأوامر لجميع المسلمين، والمريدين بصفة خاصة في جميع الأقاليم والمدن الإيطالية التي زارها، وأوصى بتبليغ الأمر للغائبين تحت اسم جمعية التعاون على طاعة الله ورسوله.

       وحينما صدر هذا الإذن من فضيلة الشيخ؛ كان معظم المريدين هناك يعتقدون أن نية الشيخ كبيرة وحرصه شديد في خدمة الإسلام والمسلمين، ولكن هذا قد يكون أمرًا شبه مستحيل لصعوبة المهمة، وما تحتاجها إليه من الأموال، وكان الشيخ مرتضى يكرر نفس الأمر في كل سنة عندما يزور إيطاليا، وغيرها من البلدان الأوروبية.

          وفي سنة 1993 م قد نجحت الجمعية في تنظيم أول أسبوع ثقافي إسلامي في إيطاليا من 23 إلى 31 مايو 1993 م في إقليم لومبرجا، وإيمليا، رومانو بالمدن الآتية: بريشيا، بارما، لكو، برغمو، ميلانو، باويا، بحضور الشيخ محمد المرتضى والسفير السنغالي والملحق الثقافي وكثير من الجاليات المسلمة في إيطاليا.

      ولم تقتصر الجمعية في إقامة الأيام الثقافية فقط بل حاول المريدون إيجاد مقرات في معظم المدن التي يعيشون فيها لممارسة أنشطتهم الدينية والدنيوية.

      وفي سنة 1994 م قد وضعت الجمعية البرنامج التعليمي والإرشادي لتعليم الجالية السنغالية والمسلمة الموجودة هناك في إيطاليا. وكان البرنامج كالآتي:

  • في نهار يوم السبت يرتل القرآن الكريم للدعاء على أموات المسلمين، وكذلك في الاحتفالات الدينية.
  • يسهرون كل ليلة سبت بقراءة القرآن الكريم، وذكر الله والصلاة على النبي وقراءة القصائد الخديمية بأنواعها المختلفة، ويذهبون إلى المضاجع بعد أداء صلاة الصبح.
  • وفي شهر رمضان المبارك يختمون في كل يوم سبت القرآن الكريم والفلك المشحون، وفي كل يوم الأحد يتدارسون موضوعا من الدين وبعد ذلك الأسئلة والمناقشة.
  • في أول أحد من كل شهر، يقيمون محاضرة دينية، ودراسة السيرة النبوية وسيرة الصحابة رضي الله عنهم، وذلك لعلمهم بأن المسلم لابد أن يتعلم شيئا من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للاقتداء به لقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة).
  • وفي نهار يوم الأحد من كل أسبوع يجتمعون في المدرسة لطلب العلم، المسجلون كانوا يبلغ عددهم 44 شخصا، ويحضر بصفة نظامية 33، والمتعلمون مقسمون إلى أربعة مجموعات:

ا – المجموعة الأولى تتكون من أشخاص مبتدئين، فمنهم من جاوز هذه المرحلة واكتفوا بذلك لسبب ما، ومنهم من واصلوا ويتعلمون كتاب تزود الصغار، والجوهر النفيس، وتزود الشبان، ونهج قضاء الحاج.

ب – المجموعة الثانية تبدأ بالكتب المذكورة آنفا بالإضافة إلى كتاب ملين الصدور، وكتاب المقدمة العزية للجماعة الأزهرية في الفقه المالكي.

ج – المجموعة الثالثة أفراد ينفردون بكتبهم لاختلاف مستوياتهم وثقافتهم.

د – المجموعة الرابعة مجموعة تعلمت قسطا من التوحيد والفقه والتصوف والنحو والصرف والبلاغة والتجويد ينتظرون الفرصة لتعلم كتاب مختصر الشيخ خليل وكتاب ألفية ابن مالك وغيرهما من الكتب.

وفي شهر أغسطس 1997 م حصل سكان إقليم بريشيا على مركز إسلامي بيت الشيخ الخديم على غرار أهالي برغمو بموافقة بنك يمولهم ويدفعون الدين بأقساط، وفعلا قد دفعوا جميع الأقساط قبل الموعد المتفق عليه، وهذا المركز كبير وواسع جدا حيث يوجد فيه مساكن، كان الشيخ مرتضى يقيم فيه أثناء وجوده في الإقليم.

وهناك مكان واسع تقام صلوات الجمعة والفرائض الأخرى، وفيه مكتبة ومدرسة ومكان واسع صالح للبناء ولتركين السيارات ولأغراض أخرى.

ورئيس بلدية هذه البلدة السيد: F.Gatta هو الذي خصص يوم الثامن من يونيو 08/06 يوم خاص للشيخ أحمد بمب رضي الله عنه، وهو الأول في إيطاليا وأوروبا على غرار ما حدث في أمريكا. هذا الرئيس قد زار السنغال أبريل 2009 م وشجع بقراره التاريخي والشجاع؛ لأن المريدين كانوا يسمعون ويشاهدون الانتقادات من قبل المعارضين لهذا القرار الحاسم، وقد فرح هذا المسؤول بموقف المريدين تجاهه، وقد رافقه الشيخ عبد الرحمن لوح لزيارة أعمال بناء جامعة الشيخ أحمد بمب الإسلامية ومعهد الأزهر في دار السلام اندام، حيث وصى التلاميذ عقب زيارته قائلا:

 أوصيكم بمواصلة الدراسة ومحاولة فهم دروسكم جيدا، العالم اليوم كغرفة واحدة، فمن لا يتقن في دروسه قد لا يلحق بالركب والتطورات التي يعيشها هذا العالم. الشباب حملة الشعلة المضيئة غدا، فعليكم بالاجتهاد والعمل الجيد.

وهذا اليوم معروف الآن ويهتم به كثير من المسئولين في السنغال وخارج الوطن، وكذلك خصص رئيس بلدية Treviglio في محافظة Bergamo السيد لوويجي مينوتي، يوما خاصا للشيخ أحمد بمب، وهو يوم 06/17 سنة 2000 م بحضور حاكم المدينة والجالية المسيحية والصحفيين والوفد الممثل للشيخ محمد المرتضى امباكي، والسيد Gatta المذكور آنفا.

        ويوجد هناك مراكز في ميلانو، كليار، ولاديسبولي روما، رمن، بارما، أي سبع مراكز في إيطاليا تحت اسم جمعية التعاون على طاعة الله ورسوله.

        وكانت المسميات مختلفة من منطقة لأخرى أو من بلد لآخر في أفريقيا وأوروبا وأمريكا وآسيا المعنى واحد والهدف واحد وهو التعاون على البر والتقوى.  والشيخ مرتضى هو الذي أعطى هذا الاسم للشيخ عبد الرحمن لوح بيده، وكان هذا الاسم تحت ترخيص وزاري رقم: U6679 بتاريخ 28/12/1992 م بتوقيع وزير الداخلية آنذاك السيد مجانغ قر انجانغ Madieng Khary Dieng وأعطاه هذا الاسم والأوراق وقال: الواجب أن تكون الجهود متحدة لهدف واحد وهو خدمة الإسلام والمسلمين، وكان ذلك في بريشيا مايو 1996 م.

       وفي ألمانيا قد تم فتح المركز بعد شهرين من انتقاله إلى رضوان الله تعالى الأكبر. وحكى الشيخ عبد الرحمن لوح أنه حينما نزل في مطار فرانكفرت بتاريخ 24/09/2006 م قادما من المغرب، كتبت موظفة البيانات وسألته عن العنوان، وأعطاها عنوان المركز في مدينة ورين وسمعها في حديث سري مع زميلتها مستغربة قائلة: كيف حصلوا على هذا المركز رغم قصر مدة إقامتهم في ألمانيا؟         

 نعم حصلوا على هذا المركز بتوفيق الله وجهود الرجل الذي لا يعرف الملل ولا الكسل وهو الشيخ محمد المرتضى امباكي رضي الله عنه.

    وفي إسبانيا أيضا قد اتحد المريدون وحذوا حذو إيطاليا وأمريكا وألمانيا بمحاولة إيجاد المركز واشتروا عقارا واسعا؛ وكان الشيخ محمد المرتضى امباكي رضي الله عنه الواضع للحجر الأساسي للمركز، وكان المتفق مع المقاول أن تنتهي الأعمال في نهاية سنة 2004 م ثم انتهت أخيرا في سنة 2005 م، وقد فتح هذا المركز ابنه الشيخ مام مور امباكي بعد سنة من انتقال الشيخ محمد المرتضى إلى جوار ربه.

        وهناك جماعات نشطة في كل من إنجلترا وبلجيكا وسويسرا والسويد وإن لم يكن لهم مراكز فهم طليقون للحاق بالركب.

وكان الشيخ محمد المرتضى يقول في مناسبات عدة في إيطاليا: هذه الأموال التي تنفقونها في الفنادق والمساكن المؤجرة لو حصلتم على مراكز لرجعت إليكم وإلى المسلمين.

 وكان بهذا الكلام يحثهم على الحصول على المراكز لأنفسهم كما كان يرحمهم جدا بكثرة النفقات، وكان معظمهم يستغربون بهذه الفكرة مبرهنين أننا مهاجرون عابرون سوف نعود قريبا؛ وهذه نفقات واستثمارات بدون عائد !؟ ومع نتائج المراكز وثمارها الطيب؛ بدأ السنغاليون يستثمرون بشراء المنازل بدلا من الاستئجار ترى الشخص الواحد يشتري منزلا وبعد سنتين وأكثر يبيع ذلك المنزل ويأخذ ربحه بعد دفع ما عليه ثم يبحث عن آخر.

        استيقظ السنغاليون من هذه النومة والغفلة اللاشعورية بعد هجرة دامت أكثر من عقد من الزمن بفضل الاقتصادي الكبير الشيخ محمد المرتضى رضي الله عنه، وطالما كرر في اجتماعات كثيرة: إن الواجبات تجاه الخليفة وشيوخكم غير خافية عليكم، ولا أسئلكم شيئا من هذه الأموال التي تجمعونها، بل أنفقوها في أنفسكم فيما ينفعكم ولا يضركم في هذه الدنيا وتلك الآخرة.

    وكانت هذه الوصية دفعة قوية لجمع الهدايا الكثيرة إلى الخليفة تحت جماعات ودوائر متعددة في أوروبا وأمريكا وأفريقيا، كما كان يشير المغفور له الشيخ مصطفى ابن مام شيخ هنت امباكي العامل المخضرم والاقتصادي الكبير والشهير ب سرج مصطفى تيايتو كان يكرر كثيرا بأن الفضل يرجع إلى الشيخ محمد المرتضى امباكي رضى الله عنه الذي نظم المريدين في الخارج وحثهم على العبادة والعمل، وإنفاق أموالهم فيما ينفعهم ولا يضرهم؛ ولذلك تراهم يأتون بهدايا كثيرة من جميع الجهات.

      وحكى الشيخ عبد الرحمن لوح أنه في سنة 2011 قد سلم للشيخ صالح امباكي الخليفة آنذاك مبلغ 71,000,000 فرنك من دوائر قليلة في برغمو وضواحيها.

      قد أمر الشيخ مرتضى بتشكيل لجنة عليا للتنسيق بين هذه الجمعيات في السنغال وأفريقيا وأوروبا وأمريكا وآسيا، لكون هذه الجمعية عالمية تستطيع أن تضم مسلمين من فئات مختلفة ومذاهب شتى لقوله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). وكان الشيخ عبد الرحمن المذكور آنفا قد عمل في هذه اللجنة وكان رئيسها لمدة سنتين ونيف قبل رجوعه إلى الوطن.

     وفي آسيا: وكان في اليابان مجموعة ناشئة ونشطة، ونسأل الله أن تلحق بالركب، وهناك جماعات في السعودية، ومنهم من درسوا في معاهدها وجامعاتها، ومنهم من يعملون في القطاعات المختلفة.

      وفي أستراليا فيما يعلم ليس فيه تواجد سنغالي يذكر بسبب البعد الزمني والمكاني لتلك القارة والقوانين الصارمة على المغتربين غير المهاجرين بصفة دائمة.

    وبهذه الخلاصة نجد أن الشيخ محمد المرتضى أشعل سرجا وأضاء القارات بنور الإيمان دون حمل أي سلاح بل بالحكمة والموعظة الحسنة، والسلوك القويم، والعمل لأجل صالح البشرية كلها دون الإضرار بمصالح الآخرين، وسع الكثير والكثير من الآفاق والمفاهيم الصحيحة تحقيقا لقول والده الشيخ الخديم:

             لك متابي بشكر ورضى      يا واسعا وسعت لي بمرتضى.

توجهات الشيخ محمد المرتضى الفكرية

وبالنظر إلى مساعي الشيخ محمد المرتضى امباكي المباركة لإحياء العلاقات الدينية والطينية وما كان يقوم به من الإنجازات العلمية والفكرية والمشروعات التنموية بهدف الإسلام وتعزيز قوة المسلمين، والوسائل التي كان يتخذها لتحقيق هذه الأهداف، ندرك تماما أنه كان له أفكار عميقة وأمنيات كبيرة تجاه الإسلام والمسلمين، وكان شديد الحرص على نصرة دين الله وتوسيع رقعته في أفريقيا وفي العالم أجمع لذلك من الأهمية أن نتناول في المباحث الآتية حرصه على قوة الإسلام ودوره في توحيد المسلمين.

مبادئه الإسلامية:

  فإن الحديث عن مبادئ الشيخ المرتضى الإسلامية، فإنه يمكن أن ندركه ونعلمه من خلال الحديث عن حرصه على قوة الإسلام، ووحدة المسلمين، لذلك نتناول في المطلب الأول ما يلي:

حرصه على قوة الإسلام:

وقبل التطرق إلى بيان كيفية حرص الشيخ محمد المرتضى على قوة الإسلام والسعي لنشره وتوسيع رقعته، أود أن أوضح أولا بالإيجاز: المبادئ الأساسية للإسلام التي ينبغي على المسلم مراعاتها والالتزام بها لكي يحسن إسلامه، وتختلف أساليب العلماء في تعدادها وبيانها، ويمكن إجمال أهمها في ثلاثة جوانب:

  1. في جانب الصلة بالله
  2. في جانب الصلة بالنفس
  3. في جانب الصلة بالآخرين

وقد أشار النبي الكريم – ص -إلى هذه الجوانب الثلاثة في حديث واحد يعد من جوامع الكلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم (اتق الله حيث كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن). لتوضيح ذلك :

أولا: في جانب الصلة بالله

ويتمثل هذا الجانب منها ما يلي: 

           ا – الدعوة إلى توحيد الله وهو الإيمان بالله بأركانه الستة التي بينها حديث جبريل عليه السلام، وهي (الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره...)

         ب – الدعوة إلى أركان الإسلام الخمسة، التي وضحها حديث جبريل عليه السلام أيضا.

         ج – الدعوة إلى الإحسان الذي بينه الحديث وهو التصوف.

ولأهمية هذا الجانب وفضله أطلق عليه النبي الكريم كلمة {الدين} حيث عبر عنه في حديث جبريل: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم).

ثانيا: في جانب الصلة بالنفس:

    ا-الدعوة إلى إعطاء النفس البشرية حقوقها كاملة سواء منها الحقوق المادية والمعنوية قال تبارك وتعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).

وأقسم جل شأنه بالنفس – وهي نفس آدم عليه السلام أو كل نفس بأنه هو الذي خلقها فأحسن خلقها وصورها فأبدع تصويرها لتؤدي رسالتها على أكمل وجه، كما أرشدها إلى سبيل الخير والتقوى ودعاها إليه، كما بين لها أيضا طريق الشر والفجور ونهاها عن السير فيه وورد في الحديث الشريف (ولنفسك عليك حقا).

ب – الدعوة إلى الاهتمام بواجباتها وأداء وظائفها، فلا بد من توازن الحقوق والواجبات سواء أكانت مادية أو معنوية وقد جاء في الحديث الشريف (فأعط كل ذي حق حقه)، ‫فمن الحقوق البشرية حقها في الحياة والشراب والنوم والدواء والتجمل وانقاذها من عذاب الله في الدنيا والاخرة ومن واجباتها طاعة الله ورسوله فيما امر به واجتناب نهيهما فيما نهاهما عنه وابتعادها عن الظلم بجميع انواعه

ثالثًا: في جانب الصلة بالآخرين:           

‫   ا - الدعوة الى بر الوالدين، وصلة الأرحام، والعناية بالأهل والأولاد، ‫قال تعالى : (وبالوالدين احسانا). وقوله تعالى:(وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). ‫

‫ ب -    الدعوة الى حسن الجوار والرحمة بالضعفاء واليتامى والمساكين...‫   

‫قال تعالى: ( وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا

‫    ج -    الدعوة الى التأخي والتعاون والتعاطف والتحابب بين المسلمين‫

    قال تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان).  

‫     د -  الدعوة الى البذل والنصيحة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر،‫    

‫قال تعالى : (ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون. )

 هـ -الدعوة إلى الشورى وعدم الانفراد بالرأي لقوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم).

و – الدعوة إلى معاملة الناس بالخلق الحسن، لقوله تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لا نفضوا من حولك.

ز – الدعوة إلى العدل والمساواة بين الناس قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي....)

       وبالتأمل إلى هذه المبادئ الأساسية للإسلام، نجد أن الشيخ محمدا المرتضى كان يطبقها في حياته تطبيقا عمليا، وكأنها تمثلت في شخصيته قلبًا وقالبا فمثلًا لو تأملنا إلى جانب صلته بالله نرى أنه كان ملازما لعبادة الله مواظبًا على الصلوات الخمسة ويصليها في المساجد، والنوافل بقيام الليل عملًا بقوله تعالى (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون)

           وفي يوم من الأيام فقد وجدته في منزل أحد المريدين في بعض الزيارات التفقدية التي كان يقوم بها كعادته لبعض الناس، دخلت في الغرفة التي أقام فيها الشيخ في وقت السحر قبل الفجر ووجدته، يتنفل ويقرأ في آخر سورة الأحزاب قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال.) إلى آخر السورة وفي ذلك اليوم وجدت في الغرفة رجلا يدعى ب (فاضل سك).

        وفي يوم آخر قد بت في غرفة نومه في مدينة { تياس} ولا حظت أنه كلما استيقظت في الليل رأيته على السجاد يتنفل، ولَم أره قط يستريح على السرير في تلك الليلة، وهذا من الأدلة على كونه ملازما لقيام الليل والنوافل، وكان أيضا  يخصص بعض أوقاته للأوراد بذكر الله، والبعض الآخر بقراءة القرآن الكريم ونادرا ما رآه الناس  إلا ونجده يحمل المصحف على يده، وكان يخصص بعض الأوقات لمطالعة الكتب الدينية، وعلى الرغم من أن الناس كانوا يزدحمون عنده دائماً لزيارته، وبعضهم لطلب المساعدات المالية، إلا أن ذلك لم  يؤثر ولم يعرقل شيئا في جانب صلته بالله،  وكما لا حظتُ أنه كان  يأمر ببناء مسجد في كل بيت يسكنه من بيوته ويؤدي فيه الصلوات الخمس، ويعين أيضًا في ذلك البيت مدرسا للقرآن الكريم، ما من منزل من منازله إلا وتجد فيه  مسجدًا ومدرّسًا للقرآن الكريم،  وكان معروفًا ومشهورًا بالحرص على تطبيق الأحكام الشرعية بأقسامها الثلاثة وهي العقائدية، والعملية، والوجدانية، ولم يكن يقبل من أحد أن يهين أو يخفف شيئا من أمور الدين، وكان يصوب الناس إذا أخطأوا وصدر من لسانهم ما يشبه المساس بأمور العقيدة، وذات يوم جئتُ مع واحد من الإخوة لزيارته وأعرِّفُه على ذلك الشخص، وقلت له هذا اسمه {حكيم} وصوبني وقال:{عبد الحكيم } لئلا أخلط بين الصفة التي يختص بها الله وحده وصفة العبد.

         وكان يرى أن من أنجح الوسائل للدعوة إلى الله في الوقت الراهن: الدعوة عن طريق التعليم أي بتوسيع نطاقها بفتح المدارس والمعاهد الإسلامية والمدارس القرآنية، لذلك قد أسس هذه المعاهد العلمية ليتعلم فيها الناس أمور دينهم ما يتعلق بالتوحيد والفقه والتصوف، لإدراكه أن الناس إذا تعلموا وفهموا دينهم فإن ذلك العلم قد ينقذهم ويخرجهم من ظلمات الجهل والضلال، ولا يمكن إضلالهم من قبل أصحاب العقائد الفاسدة، وبإمكانهم أن يمارسوا دينهم على الوجه الصحيح.

     أما في جانب الصلة بالنفس فنجده يعطيها حقها بلا إسراف ولا تقصيرفي الحياة، وحقها في طاعة الله ورسوله فيما أمر به، واجتناب نهيهما فيما نهاهما عنه، وابتعد كل البعد عن الظلم بجميع انواعه.

      أما في جانب صلته بالآخرين فيمكن أن يضرب به أروع المثل في حسن الخلق وحسن المعاملة مع الآخرين، ولم يكن يميز بين مسلم ومسلم ولا بين ابنه أومن ينتسب إليه وبين غيره، وكل الناس متساوون عنده مادام ذلك الإنسان مسلما ثابتا على الحق ملتزما بالأوامر الشرعية، وكان من شأنه إذا رأى من يشبه  إنسانًا متدينا يطلق لحيته وشكله شكل الإنسان الملتزم بالدين يحبه حبا جما ويحترمه جدا،    وكان رحيمًا بالضعفاء واليتامى والمساكين ويتحمل منهم مسئوليات كبيرة منها كل ما يتعلق بنفقات بيوتهم ، ووصفات الأطباء وما يحتاجون إليه من الاحتياجات الضرورية، ويزدحمون عند بابه يوميا حتى يكادوا أن يعرقلوه أحيانا في الأوقات التي خصصها لقراءة القرآن أو للأوراد ويشتكي ويقول : ( يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ).

      ومما يدل على حرصه على قوة الإسلام والقيام بنشره في كثير من بقاع الأرض، أنه كان يكرر هذه الآيات الكريمة في كثير من المناسبات لما لها من مغزى ومعان عدة في أن يعطي العبد حياته كله لله وهو قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والفرقان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم). وقوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) وقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) 

وكانت هذه الآية الأخيرة علامة وشعارًا لجميع شركاته وتكتب عليها كما تكتب عليها أيضا كلمة {وقف لله} وخصوصًا شركة النقل، وقد فهم هذه الآية فهما دقيقًا، لذلك قد أسس مؤسسة الأزهر للدراسات الإسلامية، وشركة {التعاون} للتجارة، وشبكة المواصلات {الأزهر للنقل البري} ولها خطوط على ربوع البلاد، والأزهر للطباعة، والأزهر للزراعة، والأزهر للبنزين، والأزهر للمخابز، ومؤسسة خادم الرسول، وسائر عائدات هذه الشركات المذكورة تمول ميزانية الحقل التعليمي والإسلامي.

ولاحظنا أن العاملين في شركات النقل بدأوا في بداية الأمر يعلقون صوره على الحافلات، وحينما سمع الخبر أمرهم بإزالتها وأن يكتبوا مكانها: لا إله إلا الله محمد رسول الله! كما أمر بأن يكتب في سياراته الخاصة قوله تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).

     وجدير بالذكر أن الشيخ محمد المرتضى امباكي قد وقع على وثيقة معتمدة لدى السلطات المحلية الرسمية على أن مؤسسة الأزهر وكافة ملحقاتها وممتلكاتها أصبحت كلها وقفًا لله تعالى ولا يتصرف فيها بأي وجه من الوجوه إلا فيما يرضي الله ورسوله، وذلك بتاريخ 24 من ربيع الثاني1406 هـ الموافق 1 يناير1986م.

وكان يستنفد كل الوسائل المتاحة ويستعمل جميع الإمكانيات من أجل نشر الإسلام وتوسيع رقعته ودعم ومواصلة هذا العمل الإسلامي داخل الوطن وخارجه.

    لذلك لاحظنا أن كثيرا من مواطني تلك الدول يدخلون في الإسلام على يديه ويأمر المريدين هناك بإقامة مراكز تربوية وتعليمية يربون فيها أبناء المسلمين ويعلمونهم فيها دينهم وتعليم هؤلاء الجدد في الإسلام.

      وكان يؤمن بمبدأ الشورى ويطبقه دائما في حياته  على الرغم من كثرة تجاربه في الحياة، وكثرة أسفاره في البلدان، ومخالطته لثقافات ومجتمعات مختلفة بالإضافة إلى  كبره في السن وتوسعه في العلم ، على الرغم من كل ذلك كان يتشاور مع الناس ولا يستقل  برأيه أبدا لذلك رأينا أن جميع الأعمال والمشروعات التي أقامها كان يشاور فيها الناس وينظر من العلماء وأصحاب الخبرات من تأهل لإدارتها ويكلفه بها، بغض النظر عن كونه ابنه أو من أقاربه وكان لا يقدم أبناءه في تلك الأعمال إلا إذا تأهلوا لذلك علميًا كغيرهم، وذلك مما يؤيد  موقفه في الدعوة إلى العدل والمساواة بين الناس.

حرصه على وحدة المسلمين:

          فإن من أهم عوامل قوة أمة الإسلام هو الاتحاد، وبه تنال الأمة مجدها، وتصل إلى مبتغاها، وتعيش حياة آمنة مطمئنة، وقد اتفق العقلاء قديما وحديثا على أن الوحدة هي سبيل العزة والنصرة لذلك وجدنا أن القرآن الكريم قد أولى لها اهتماما بالغا، واعتبرها من الواجبات، وحث عليها مرارًا وتكرارًا بشكل مباشر وغير مباشر. ومن مميزات هذ الأمة أنها أمة واحدة، وقال تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فااتقون). لذلك يجب عليها أن تتوحد لتتمكن من تحقيق آمالها والوصول إلى أهدافها، ولاحظنا أن القرآن يحثنا عليها أحيانًا بشكل صريح كقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون).

     وفي السنة النبوية فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.

وقال القرطبي رحمه الله: فإن الله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة.

       وتارة يحثنا على الوحدة بشكل غير مباشر أي عن طريق الإشارة وذلك بأن يأمرنا بإيجاد وتحصيل أمور لا يمكن أن تحصل إلا بالوحدة؛ قال الله -عز وجل :(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال جل وعلا (فاتقوا اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ)  

   وقال أيضا: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)، وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).

          وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: "لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا -عِبَادَ اللَّهِ-إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ". رواه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم عن أبي هريرة.

     فهذه الآيات القرآنية تأمر المسلمين بكل ما من شأنه أن يزيد المحبة بينهم، والنهي عن كل ما يولد البغضاء في صفوفهم، وتأمرهم صراحة بأن يكونوا إخوة، ولا يمكن للمسلمين أن يكونوا إخوة إلا إذا كانوا متحدين، فإن الأخوة ضد الفرقة والاختلاف.

   وقوله تعالى: يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).

 ومن أساليب القرآن والسنة في الدلالة على وجوب الوحدة بين المسلمين: النهي الصريح عن الافتراق والاختلاف اللذين هو ضد الوحدة والاجتماع.

قال الله -عز وجل-: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ.)

قال الطبري: "يقول تعالى: أطيعوا أيها المؤمنون ربكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء، ولا تنازعوا فتفشلوا، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا فتضعفوا وتجبنوا وتذهب ريحكم".

     ومن الأساليب التي استخدمتها الشريعة في الحث على الوحدة بين المسلمين: تحذير الشريعة من الشذوذ ومفارقة الجماعة، وقال تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا.)

ففي سنن الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-فِينَا، ثم ذكر خطبة جاء فيها: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ".

        وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

        ونهت الشريعة أن يهجر المسلم أخاه المسلم، وأمرت بإفشاء السلام بينهم، من أجل إشاعة المحبة، وأمرت بصلاة الجماعة، ونهت أن يسافر الرجل وحده، وأن يبيت وحده.

         ونستقصي من هذه الشواهد الشرعية التي تفيد بمجموعها وآحادها وجوب اجتماع كلمة المسلمين ووحدتهم، لأن ائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الأهداف والمناهج من أوضح تعاليم الإسلام وألزم أخلاق المسلمين المخلصين، ولا شك أن توحيد الكلمة هو الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة ونجاح رسالتها العالمية الإنسانية الصالحة لكل زمان ومكان.

      خذ هذه الرسالة التي يحملها الإنسان إلى غيره ممن لم تبلغه الدعوة النبوية الشريفة التي أتت لتنقذ البشرية جمعاء وتحررها من ربقة العصبية والتنطع والعنصرية والطبقية إلى غير ذلك من الأمور التي تقيد الانسان وتعوقه عن أداء هذه المهمة: {الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة} وتساعده على اتخاذ العنف منهجا يسلكه لتبليغ هذه الرسالة السماوية التي تدعو إلى السلام والأمن والاستقرار، كما تحث الأمة على التحابب والتراحم والتآخي اقتداء بسلفنا الصالح الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.   

   ومن هذا المنطلق وجدنا أن الشيخ أحمد بمب قد استطاع أن يخترق الحدود ويتجاوز العقبات المذهبية والطائفية والاجتماعية وغيرها، وذلك بنور القرآن وهدي السنة النبوية الشريفة، وعالج على أهم العوامل التي تؤثر في شق وحدة المسلمين وهي التعصب المذهبي والطائفي والطبقية الاجتماعية.

     بالنسبة للتعصب المذهبي: لاحظنا أن الشيخ الخديم كان محافظا ومجددا في نفس الوقت وقال:

دِينٌ سِوَى إِسْلاَمِهِ لاَ يُحْمَدُ         عِندَ الإِلَهِ وَبِهِ نُجَدِّدُ

          والمجدد لا يكتفي بتجديد النصوص ولا الأصول فحسب، بل يتعداها إلى تقويم سلوك الفرد والجماعة، وتصحيح نظرة المجتمع إلى الدين وتعاليمه، وعليه فإن المجدد داعية إذا أراد أن يحقق أهدافه الدعوية فلا بد أولا أن يحسن علاقته بربه وبجميع المسلمين، ولكننا لاحظنا أن التعصب المذهبي أدى في كثير من الأحيان إلى تمزيق وتفتيت صفوف المسلمين وغرس بذور الفرقة والعداوة في المجال العقدي والفقهي.

       أما الشيخ الخديم قد التزم بمبدأ مهم مؤداه اعتبار كل من ينطق بالشهادتين أخا في الدين.

وقال:                                           

                   فلا تعادوا من رأيتم فاه      يخرج لا إله إلا الله

هذا فيما يتعلق بالجانب العقدي، أما ما يتعلق بجانب المذاهب الفقهية فقد اتخذ الشيخ موقفا متميزا:

           أئمتي في الفقه مالك العلي     والشافعي والحنفي والحنبلي

          فهو يسوغ العمل بالمذاهب جميعا، ولكن نظرا لكون المذهب المالكي قائما على منهج التوسط والاعتدال والتسامح، ولكونه السائد في منطقته أمر أتباعه بالتقيد بها وقال: فأمرتكم جميعا بالمذهب المالكي، وقال أيضا عليكم بالمالكية فإنها مطهرة منورة. كما اعتبر اختلافات العلماء تعلما وتعليما في ثنايا الرسالة التي كتبها بشأن مسألة المعية التي وجهت إليه، والتحابب بين العلماء رحمة الله تعالى عليهم واختلافهم في المسائل تعلم وتعليم لا عداوة ولا تحاسد".

 أما التعصب الطائفي: بدلا من اعتبار الطرق الصوفية مناهج تربوية تهدف إلى تصفية الأرواح وتزكية القلوب عن طريق أوراد ورياضات إلى آخر ما هنالك من أساليب وأدوات يمكن أن يكمل بعضها بعضا، بدلا من ذلك اتخذها بعض الناس سلاحا لمعاداة من يخالفهم أو أساسا لتكفير بعض المسلمين أو تبديعهم لكن الشيخ -رضي الله عنه -رفض أن تكون الطرق الصوفية قيدا عليه ولذلك يقول:

          فكل ورد يورد المــــريدا         لحضرة الله ولــــــــــن يعيدا

          سواء انتمى إلى الجيلاني        أو انتمى لأحمد التيجـــــــاني

         أو لسواهما من الأقـــطاب        إذ كلهم قطعا على الصــواب

         فكلهم يدعوا المريدين إلى        طاعة رب العرش حيثما جلا

         بالاستقامة فلا تسخر أحد         منهم فلا تنكر عليهم أبــد                   

  وهكذا اعترف بجميع الأولياء المرشدين، أما إذا لم يجد الإنسان شيخا مرشدا يتمسك بتراث السلف الصالح المكتوب:

                إن لم تلاق مرشدا فلتكتف     بما نص خيار السلف.

    كما استعمل الشيخ أوراد الطرق الصوفية المنتشرة وقتئذ في قطره كالقادرية والتيجاني والشاذلية، وأخذ إجازات من مشائخها، ولم يعرف عنه أنه أمر أحدًا بالتخلي عن ورده، ويوجد من كبار أتباعه من أمره باستعمال تلك الأوراد مثل الشيخ بار نيانغ الذي بايعه على طريقته وأمره بالاحتفاظ بورده التيجاني لإحياء الطريقة التيجانية، وقال رضي الله عنه:

              مشايخي سيدنا الجيلاني     والشاذلي معه التيجاني

وكان رضي الله عنه كثير التفقد لمن بلغه صلاحه من أبناء الصالحين وكان كثير الزيارة لمقابرهم، وكان يأمر أتباعه بالنهل من مشارب الخير الصافية أينما وجدوها ولذلك يقول: " وأما أحزاب الأقطاب ودعوات الصالحين فأذنت لكم جميعا بالعمل بكل ما تسير لكم منها حيث وجدتموه ".

وبالنسبة للطبقات الاجتماعية: وعلى الرغم من إقرار الإسلام مبدإ المساواة بين الناس في حقوقهم وواجباتهم ظلت العادات والتقاليد تقاومه عن طريق تكريس الطبقية على أساس اللون أو القبلية أو الحرفة، الأمر الذي جعل بعض المسلمين ينظرون إلى إخوانهم نظرة دونية وافتقار مما أفضى آنئذ إلى تكدير صفو العلاقات الاجتماعية، ولذلك عالج الشيخ مشكلة الشعور بالنقص بسبب اللون خاصة فقال: فيما يتعلق بالجانب العقلي:

               فليس يوجب سواد الجسم        سفاهة الفتى وسوء الفهم

        كما ركز على مبدا المساواة التي نادى بها الإسلام ولا تفاوت ولا تفاضل إلا بالتقوى التي هي ثمرة العلم والعمل والتقوى وقال:

واعلم بأنما تفاوت الورى        بالعلم والدين يكون فاصبرا

وبهما يفضل من قد فضلا       لا بانتسابه لمن قد اعتلى

من جهة الأنسـاب أم وأب       ففيهما اجتهد مع التأدب

        وهكذا نرى عمل الشيخ على إعادة التوازن الاجتماعي نظريا وتطبيقيا، فمن الناحية النظرية أسلفنا ذكر أبيات تبين بوضوح موقف الشيخ  من مبدا المساواة بين المسلمين ماديا وروحيا حقوقا وواجبات، ومن الناحية العملية كان رضي الله عنه يرى أن الحرفة ليست حجرا مانعا من الترقي الروحي أو التبحر في العلوم الدينية، ومن هنا قام بقلب الأدوار في بعض الأحيان مثل تدريب الشيخ مود لام في حفظ القرآن الكريم وخدمته، والشيخ فاط تكوا جوب على النجارة، كما كان ينصب بعض أتباعه شيوخا بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو الاجتماعية، وكان ينوي الخير للبشرية جمعاء، وقد أعطى الشيخ الخديم نموذجا رائعا في محبة الخير للبشرية، وظهرت هذه المحبة عبر معاملاته وكتاباته، فلا يخلو مؤلف من مؤلفاته من دعاء لصالح الأمة الإسلامية أو للخلق بشكل عام ومن ذلك قوله رضي الله عنه :

      يا مالك الملك يا من جل عن قود       ارحم جميع الورى يا هاديا ردءا

وقوله:

                   كونوا عباد الله يا إخواني        بلا تحاسد ولا عدوان

                  من حب للأخ الذي يحب          لنفسه رضي عنه الرب

وقوله:

                 عليكم يا معشر الإخــــوان       بطاعة الله بلا عــدوان

                 تحاببوا في الله ذي الجلال        بلا تنازع ولا إضلال

                 إن التحابب هـــــو الإيمان       لأهله السرور والأمان

                 أما التحاسد فللشقــــــــــاوة       يقود أهله بلا حـــلاوة

        وأفضل الخصال حب في الجليل        وفي الرسول حبه نعم الخليل

      فإن هذه الجهود من الشيخ الخديم لتوحيد المسلمين قد أتت بثمار جليلة وواضحة منها: إرساء روح التعاون مع المسلمين أينما وجدوا ويظهر ذلك في دعاءه للمسلمين:

          حفيظ صن أمة خير مرسل      عن الذين كفروا بالرسل

          ومنها أيضا العلاقات الأخوية بين المريدية والمرجعيات الدينية الأخرى في داخل البلاد وخارجها، والتي اتسمت بطابع حسن الجوار والتحابب في الله والتواصل الدائم والتناصح في الدين، وأبلغ برهان على ذلك تلك المعونات التي كان يقدمها الشيخ المجدد للعلماء الموريتانيين، ومراثي علماء المدينة المنورة لجنابه العالي وعلى سبيل المثال فهذا الشيخ سيدي بابا يقول:

             الشيخ أحمد نعمة أولاها       هذه الخلائق كلها مولاها

أما عبد الله سالم فقال:

ففي أي أرض كنت ينتابك الورى        ولو خلف أرض الصين والهند والترك

إذا كنت في بر أتتك ركابهم               وإن كنت في بحر أتوك على الفلك

أما أهل المدينة المنورة فقالوا له:

       شيخ الحقيقة والطريقة والهدى        هادي الورى للحق والإيمان

        يا خادم المختار من أســراره         جلت عن التــــعداد والتبيان

        حلت مكارمكم بتربة طيــــبة         فتطيبت بعطائـــك الهتان

      وتعلمنا مما سبق أن الشيخ أحمد بمب قد قام بدور كبير في توحيد الأمة الإسلامية، وقام أيضا بمعالجة كثير من المشاكل الاجتماعية والطبقية والطائفية من خلال تعليماته ومعاملاته مع الآخرين، ولما جاء ابنه الشيخ محمد المرتضى قد نهج منهجه وسلك طريقه بتوسيع تعليماته وتبليغ رسالته الدعوية داخل السنغال وخارجها، ولعب دورا هاما في توحيد المسلمين بصفة عامة، والمريدين بصفة خاصة.

        ولعل ذلك من أسباب كثرة تنقلاته وأسفاره داخل السنغال وخارجها، فإنه لم يكن يستقر على مكان واحد، بل كان يتنقل ويسافر كثيرا، ونادرًا ما ترى في مدينة من مدن السنغال إلا وتجد فيها آثاره بأن بنى فيها منزلا ومسجدا ومدرسة. وكذلك خارج السنغال، وكان له آثار ملموسة في كثير من الدول الأفريقية ومن بلاد العالم فسافر إلى تلك البلاد مرارا وتكرارا لنشر الإسلام وتوسيع دعوته وقد حظي باحترام كبير من المسلمين وغيرهم من بلاد شتى.

وكانت هذه الزيارات سببا في إسلام عدد كبير من الناس على يديه واهتداء كثير منهم ببركته ودعوته فكان داعيا إسلاميا يسافر في الخارج والداخل لتوعية المسلمين وإقناع المشركين وتوحيد صفوف المريدين وإغرائهم في أمور دينهم، ويدلهم على الطريق الذي إذا سلكوه يعرفون دينهم ويعيشونه كما أراده المولى عز وجل، وكان الشيخ سفير الإسلام وسر قول الشيخ الخديم:

إني أخاطب النصارى طرا     في أرضهم لمالك مضطرا

              تيقــــــنوا بأننــــــــــــــي لله     عبد خديــــم لرسول الله

        وكان يجسد الإسلام بمظهره وبكل أفعاله وتصرفاته، ويرتل القرآن على متن الطائرات، ويدعوا الناس إلى الوحدة والتآخي والتعاون والتعاطف والتحابب لذلك كان يردد بلسانه كثيرا الآيات التالية: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). وقوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وقوله تعالى :(واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) وقوله عز وجل :(إن ينصركم الله فلا غالب لكم).

        وكان يكرر هذه الآيات القرآنية وغيرها من الآيات التي تحث الناس على الوحدة وعدم الفرقة، والتآخي والتعاطف والتعاون على البر والتقوى والتحابب بين المسلمين ونصرة دين الله، لذلك قد أسس تلك الجمعية التي أشرنا إليها في بداية البحث وسماها بجمعية التعاون على طاعة الله ورسوله، وكانت هذه الجمعية ذات صبغة رسمية لدى السلطات المعنيين في الخارج بدل الدوائر التقليدية وذلك لتوعية المسلمين المهاجرين، وإقناع المشركين وتوحيد صفوف المريدين بجانب إخوانهم المسلمين في مراكز إسلامية لإيواء الضيوف والغرباء، ولأداء الشعائر الدينية والتعليم والاجتماع في أيام ثقافية رسمية لإحياء العلم وحفظ التراث الخديمي.

        وكان يقول: أوصيكم بجمع ربحكم والتعاون على البر والتقوى لإيجاد مراكز إسلامية يتعلم منها أبناء المسلمين ومن سيولد منهم في هذه الأراضي، وقال بكلمات واضحة جدا إني آمركم بالاتحاد وجمع ريحكم لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا). وقوله تعالى:( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).

     والأموال التي تجمعونها فأنفقوها في سبيل الله لا يجاد مساجد ومراكز إسلامية للتعاون على طاعة الله ورسوله.

وشملت هذه الجمعية كثيرا من المريدين الذين يعيشون في البلدان الأخرى خارج السنغال ويحثهم دائما على الاتحاد والتعاون فيما بينهم ونصرة دين الله، وقبل أن يقوم بهذه السفريات لم تكن الدوائر أو الجمعيات المريدية موحدة في كل بلد، بل كانت منقسمة وتنتمي كل منها إلى أسرة معينة من أسر المريدين، وكانت زيارة الشيخ لتلك البلاد سببا في وحدتهم وإيجاد روابط مشتركة للجميع تضم كل أسر المريدية في كل بلد من البلاد التي يتواجد فيها المريدون، وبحرص الشيخ على وحدة المسلمين وإيمانه بالأخوة الإسلامية لم يكن يعرف التعصب أو الطائفية أو الانتماء إلى العرق أو الجنس أو يحب الشخص بسبب كونه من أتباعه أو من أتباع غيره أو من طريقته أومن طريقة أخرى بل كان يحب المسلم كمسلم وخصوصا إذا كان متدينا ملتزما بالأوامر الشرعية وقد أشار الشيخ الخديم إلى ذلك بقوله :

وأحبب المؤمن للإيمان            ولتبغض الكافر للكفران

      ولعل ذلك مما جعله يحب الجميع بكل مستوياتهم ما داموا ثابتين على الحق ممتثلين للأوامر مجتنبين عن النواهي.

       ومما يؤيد ذلك أن مؤسسة الأزهر الإسلامية منذ أن أسسها كانت ملجأ لكل طوائف البلاد وأجناسها فالشيخ المؤسس كان يعين في أعمال المؤسسة كل من رآه مؤهلا لإدارة المعاهد بصرف النظر عن طائفته أو انتمائه إلى قبيلة معينة.

         فمثلا قد عين الأستاذ سمب جانج مديرا لمعهد الازهر في سين لويس عند افتتاحه وهو من أسرة تيجانية، والأستاذ آن مديرا في معهد كاولاخ، وهو تيجاني من قبيلة تكرورية، والأستاذ محمد بدان مديرا في معهد غيجواي،عند افتتاحه وهو غير منتم إلى طائفة.

           وهكذا كان التلاميذ أيضا، ولم يكن الانتماء إلى طائفة عائقا في الالتحاق بالأزهر، بل يعيش المريدي مع التيجاني والقادري مع من لا ينتمي إلى طائفة، ويعيش كل منهم في سلام ووئام. كما أن الأزهر لا يعرف الانتماء إلى العرق ويعيش الولوف مع البولار وسيرير مع الجولا في توافق وانسجام.

        ومما يؤيد ذلك، كان هناك واحد من التلاميذ من أب مسلم وأم مسيحية، تعلم في المعاهد الأزهرية، بعد أن كان تلميذا صغيرا في المدارس الفرنسية فهداه الله إلى الإسلام بنورالشيخ محمد المرتضى، فتعلم القرآن وتثقف بالإسلام من مدارس الشيخ ورحل إلى مصر طالبا، ثم تخرج فيها حاصلا على الإجازة العالية، فعاد إلى السنغال ثم عينه الشيخ إمامًا في إحدى المساجد.

     ولم ينحصر دوره في السعي إلى توحيد المسلمين فحسب، بل كان مهتما أيضا كل الاهتمام بقضاياهم ومتابعا لأحوالهم سواء في داخل الوطن أو خارجه، ويحضر شخصيا في المؤتمرات الإسلامية التي وجهت إليه الدعوة.

         وقد حضر المؤتمر العالم الإسلامي الذي عقد بدكار1993 م، كما حضر في مؤتمر القيادة الشعبية {بطرابلس، ليبيا} في ظل ظروف صعبة، وكان الوصول إلى ليبيا لا يتم إلا عن طريق البحر لأن أجواءها كانت محظورة. وكان إذا تعذر له الحضور شخصيا إلى بعض المؤتمرات بعث وفدا يمثلونه فيها.

        وكان يحث الناس ويدعوهم إلى إنشاء بيت مال المسلمين في طوبى لتجميع التبرعات والزكوات فيه بهدف مساعدة الفقراء والمساكين والمعوزين وينفق معظم أمواله في هذا المجال.

         وحكى الشيخ صالح مرتضى أن الشيخ مرتضى عندما كان بمنزله بدكار في {حي مرموز} في يوم من الأيام قد رجع من السفر ووجد جارا تيجانيا لم تربطه به أية علاقة، سوى علاقة المومن بأخيه المومن، وأخرج من منزله بسبب تأخره في دفع ثمن الإجارة ولما أخبر بسبب وضع أمتعته في الخارج دفع عنه الثمن وكان ذلك سببا في توسيع علاقتهما فيما بعد.

      ومما يدل على اهتمامه بقضايا المسلمين أنه كان عضوا مؤسسا في لجنة استطلاع الهلال التي كان يرأسها المرشد {عيان تيام}، ولما اتصلوا به وطلبوا منه المشاركة قد أوفد الشيخ صالح مرتضى والمدير خادم لوح وأمرهم بتذكيرهم بحكم الشريعة وبموقف المريدية.

      كما كان عضوا مؤسسا في لجنة صياغة قانون الأسرة التي كان يرأسها المحامي {بابكر نياغ}، وقد مثله الشيخ صالح في معظم اجتماعاتها، وكانوا مزمعين على عقد آخر اجتماعات اللجنة في إقليم جربل تشريفا وتكريما له بسبب موقفه الإيجابي، لكن هناك ظروف خارجة عن الإرادة حالت دون تحقيقها.

       كما كان يزور بعض الدول العربية لإحياء وتعزيز الأخوة الإسلامية، مثل {مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب} وغيرها من البلدان.

      وحكى الشيخ عبد الرحمن مصطفى لوح أنه حينما كان طالبا في مصر قد وجده الشيخ مرتضى هناك في زيارة قام بها لجمهورية مصر العربية، بدعوة من الأزهر ومن شيوخ الطرق الصوفية، وكان نائب رئيس جامعة الأزهر آنذاك  هو الشيخ الدكتور( أبو الوفاء التفتازاني الغنيمي)، كما كان أيضا شيخ المشايخ الصوفية في مصر، وكانت المشيخة آنذاك تضم أكثر من 70  طريقة ، تتكون من قادرية، تيجانية، شاذلية، رفاعية، بدوية، وغيرها من الطرق، وعقدوا جلسة لتشريفه، واختار هؤلاء الشيوخ والزعماء أن يؤمهم الشيخ مرتضى صلاة العصر في منزل الدكتور { أبي الوفاء} كدليل على احترامهم له.

ولم ينحصر دوره في الدعوة وتوحيد المسلمين وتعزيز الأخوة الإسلامية في أفريقيا فحسب بل تعداه إلى أوروبا وأمريكا وآسيا.

           ومما من الله تبارك وتعالى عليه من نتائج إيجابية في دعم ونشر رقعة الإسلام خارج الوطن والسعي إلى توحيد صفوفهم أنه بسبب احتكاكه بذوي أيديولوجيات متعددة في مجتمعات مختلفة تمكن فعلا -بأسلوبه الهادئ – من تغيير وتصحيح مفاهيم بعض القوميات ولاسيما السلطات الرسمية في عدة عواصم كبرى حتى تبنت -مؤخرا – مواقف جديدة صوب الإسلام وتجاه الأفارقة.

: جمعه بين الأصالة والحداثة

        إن الجمع بين الأصالة والحداثة هدف سعى إليه كل الإصلاحيين الإسلاميين على مر التاريخ، ومن أهم ضوابط هذا الجمع منه المحافظة على الأصول الشرعية محافظة تامة، والتمسك بالسنة النبوية الشريفة وسنة خلفاء الراشدين والعض عليها بالنواجذ لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). وينبغي للداعي اختيار الأسلوب المناسب لدعوته، واستخدام الوسائل المتوفرة في عصره لنشرها، والتمسك بأصالة دعوته لا يحيد عنها، ولا يقبل المساومة فيها، وفي نفس الوقت يقوم بمعالجة واقع عصره، ويستخدم جميع أنواع الوسائل المشروعة المتوفر ة في عصره.

        وليست الغاية من الدعوة إرضاء الناس وتحقيق رغباتهم فقط، وإنما هي هدايتهم ودلالتهم على الصراط المستقيم. 

          وتأسيسًا على ذلك إذا تأملنا إلى حياة المجاهد الكبير الشيخ محمد المرتضى وأسلوب دعوته نجد أنه كان محافظا ومجددا وجامعا بين الأصالة القديمة والحداثة المعاصرة، إذ أنه قد تعلم بالتعليم التقليدي من الكتاب وقد نهل من المناهل الصافية الأصيلة، وحافظ على هذه الأصالة العلمية، ثم بدأ ناهضا لتطوير هذا المنهج ومواكبته مع متطلبات الزمن.

فعلى سبيل المثال {دار العليم الخبير } التي أسسها { الشيخ الخديم وخلف فيها الشيخ عبد الرحمن لوح }  في سنة 1943 م ، جاء الشيخ المرتضى ليجدد هذه المدرسة الأصيلة ويواكبها مع المتطلبات الزمنية في سنة 1975 م باسم مؤسسة الأزهر الإسلامية، وأدرك أن المجتمع السنغالي كان في أشد الحاجة إلى العلم والثقافة العالية، والتربية الدينية الهادفة في السبعينيات، مما جعله يشخص حالة المجتمع ويضع لهم العلاج الناجع الشافي الذي يتمثل في ترسيخ التعاليم الدينية في النفوس، بواسطة التربية والتعليم على وجه يتواكب مع الحياة الحديثة حيث المنهج المتبنى للأصل القديم الصحيح، والواقع الضروري الحديث، ويستمر التعليم الديني في ثوب أكثر جاذبية، ويجمع المتعلم بين العلم الشرعي والمدني، واستقطب جمهرة من العلماء الأجانب إلى رحاب معهد الأزهر بتخصصات مختلفة عالية في اللغة والدين والثقافة من العالم العربي.

 ومن مظاهره أيضا إقامة الشركات المختلفة استمرارا للكسب الحلال وكذلك تحديثه العمل الزراعي وعدم الاكتفاء بالزراعة التقليدية التي لم تعد تفي بالغرض، ومن مظاهر جمعه بين الأصالة والحداثة أيضا انفتاحه بالتوسع في العلاقات حيث لم تحل الطائفية أو العرقية بينه وبين أحد.

لذلك ينبغي أن نتناول في المباحث الآتية كيف تمسك بدينه ولم يقبل المصالحة فيه وكيفية انفتاحه على واقع عصره.

تمسكه بدينه وعدم المهادنة فيه  

      إن الشيخ محمد المرتضى امباكي قد شابه والده في الهمة العالية، وتربى على تقصي مقاصد الشريعة، والالتزام بسلوكيات الصوفية، فكان متمسكا بدينه غيورا عليه، لا يداهن ولا يتساهل فيه ولا يتنازل عنه مهما كانت الظروف.

      وكان يكرس كل حياته لخدمة الإسلام ويحرص على الحفاظ على ما افترض على نفسه من العبادات، ولا يؤدي صلاتين من وضوء واحد ، ولا ينزل منزلا إلا وأقام فيه مسجدا يؤدي فيه الصلوات الخمس، وكان يحافظ على قيام الليل ولا يمنعه مانع مهما كانت الأحوال كما أشرنا إليه سابقا، وإذا كان في السفر يؤدي الصلوات في أي مكان وجدته فيه سواء في المحطات أو المطارات  أو غير ذلك، وأحيانا تتأخر الطائرة وتنتظره بسبب انشغاله بالصلوات أو النوافل وعلى الرغم من أنه كان بإمكانه أن يستعمل الرخص في تخفيف بعض ما يعاني منه من عناء السفر ومشقاته، ولكن لا يمنعه ذلك من تحمل ما كلف نفسه من العبادات، وكان يعلم أن الإسلام دين يناسب كل زمان ومكان، وإنه يجيب على متطلبات الحياة ومقتضيات العصر وتطوراته ، ومن الضرورة عرض هذه الحقيقة على العالم الغربي وبيانها لهم ولعل ذلك من أسباب كثرة تنقلاته.

          وذكر الشيخ عبد الرحمن مصطفى لوح أنه " قد تذكر يوما في مطار {ميلانو الدولي} لما كان في الرجوع إلى الوطن، وكان في غرفة الانتظار وحان وقت صلاة العصر وأراد الوضوء للصلاة ذهبوا إلى المراحيض لهذه المهمة، اضطربت العاملات خائفات لهذا الطلب! خائفات لمرور المراقب ملاحظا بلل الأرضيات ولكنهم كلموا معهن حتى قبلن وتوضأ الشيخ، وسارعن بسرعة البرق الخاطف في تجفيف المكان جاء الشيخ وأمهم الصلاة في غرفة الانتظار في {مطار ميلانو الدولي}". وكثيرا ما يقول إن أمري متوقف على هذه الآية 🙁 قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).

        وكان يكرر في أقواله: الإسلام هو الدين. وقوله: المهم الاعتناء بالإسلام وما يؤيده، وقوله: إن الدين عند الله الإسلام، وبمقتضى هذا الاعتقاد الجازم والإيمان القوي قد جعل ماله وحركاته وسكناته كلها رهينة للإسلام والمسلمين. ومما يدل على ذلك قد جعل ماله وممتلكاته وقفا لله تعالى والمسلمين، ودفع من جيبه الخاص مبلغ خمسين ألف دولار أمريكي – 50000 -للمركز الإسلامي في نيويورك، ودفع أيضا مبلغا كبيرا للمركز الإسلامي في {بونتوكو برشيا إيطاليا}، وكذلك في مراكز أخرى من مختلف الأقطار والبلدان في القارات الثلاث {إفريقيا، أوروبا، أمريكا} كما أشرنا إليه سلفا، وكل هذه الجهود تمت بمبادراته الطيبة وحسن معاملاته الحسنة دون مساعدة من الدولة أو توكيل من الخلافة.

        كما جعل كل حركاته وسكناته تعبيرا عن شكره لربه لإكرامه له، وكان يراعي شرع الله وسنة نبيه في كل أفعاله. ونقلت عن الشيخ صالح مرتضى أنه كان معه يوما في {محطة غارد ليون بباريس} وإذا بتلميذه الشهير الحاج يَانْدَ جوب يأتي له بالشاي من مقهى المحطة وسمع من الشيخ يقرأ قوله تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه الخ) فقال له إنك تراعي الشرع والسنه في كل أفعالك حتى في هذه الأماكن وابتسم الشيخ قائلا: على الإنسان أن يستحضر نعم الله عليه في كل مكان وفي كل الظروف ليديم شكره وبخاصة إذا كان الله أكرمه بمكانة لا يحظى بها إلا القليلون.

        كما نقلت أيضا عن الشيخ صالح مرتضى يقول : أنه قد صاحبه يوما في سفر إلى ليبيا لحضور مؤتمر كان من المقرر أن يعقد في مدينة طرابلس - عاصمة الليبية - وفجأة قرروا نقل مراسيم الافتتاح إلى مدينة مصراته ثم العودة بعدها لإكماله في طرابلس، وبعد رحلة طويلة ومرهقة ذهابا وإيابا وصلوا إلى طرابلس حوالي الساعة الرابعة صباحا وكان الشيخ صالح وزملائه يبحثون عن السرر أو الأسرة التي يمكن الاستراحة عليها من وعثاء السفر، وعلى الرغم من طول الطريق وما بدا على وجه الشيخ من أمارات التعب إلا أنه اتجه إلى سجادته ليؤدي صلوات ليله وفريضة صبحه وما يتبعه من الأوراد التي استمرت إلى ما بعد طلوع الشمس قبل أن يفكر في الراحة.

           وكان ثاني من أدى فريضة الحج من أبناء الشيخ الخديم بعد الشيخ محمد الفاضل وأدى سنة العمرة مرات عديدة، ويحث الناس على تزكية أموالهم وكلف ابنه الشيخ صالح مرتضى أكثر من مرة بالذهاب إلى قرية -دَارَ جُلُفْ -لتزكية جمالها فيها، وحتى شركة النقل التي جعلها وقفا لله كان يزكيها بضم ناتج عملها إلى قيمة سياراتها، وكان كثير الإنفاق، إلى درجة أن كثرة المشاريع الإنتاجية التي أقامها لم تجعله من الأثرياء، بل كان ينفق كل ما يملك حتى لا يجد في بعض الأحيان ما ينفقه على أهله.

        ونقلت عنه أيضا أنه قد حكى له السيد بشير سيسي بن المرحوم سرين مور امبي سيسي صاحب المدرسة القرآنية الشهيرة ب: جربل، وكان الشيخ صالح مع الحاج ياند جوب يحملان إليه مساعدة من الأرز وحبوب أخرى – على أن الشيخ محمد المرتضى لم يتوقف عن هذه المساعدات منذ مطلع أعوام الستينات من القرن الماضي، حين كان سرين مام مور امباكي ابنه الأكبر تلميذا في المدرسة. وكان يفعل نفس الشيء مع مدارس قرآنية كثيرة مماثلة.

      وكان الشيخ محمد المرتضى كثير الصيام، وكان يداوم على إحياء أيام رمضان ولياليه بقراءة القرآن وبذكر الله وبجميع أعمال الخير، ويحث حفظة القرآن الكريم من أبنائه وغيرهم على إقامة التراويح في مساجده الكثيرة، وكان من الذين أحيوا سنة الاعتكاف في هذه البلاد بعد أن درس معالمها، ولم يقصره بالعشر الأواخر من رمضان بل كان يعتكف ثلاثة أيام في كثير من شهور السنة.

         فكان يصحح المفاهيم الخاطئة بين العامة، ويوجه العقليات القديمة المتخلفة من الخاصة، ويحب في الله ويبغض في الله، ويكره البدعة والخرافات وكلما لا يوافق الشريعة المطهرة، وعلى ذلك ربى أهله ودعا قومه.

           وكان يقدم الدين وأهل الدين على غيرهم، معنى ذلك أنه كان يقدم أهل العلم وأهل الصلاح على أهل المال والجاه ويتجلى ذلك في مسيرته وخصوصا في الأسفار والزيارات التفقدية التي كان يقوم بها في إقليم كاسماس، أو في بعض قرى السنغال، وكان يزور الناس الذين ليست لهم ثروة هائلة، وكانت بيوتهم متواضعة  وأصحابه يعرقلونه أحيانا للذهاب إلى تلك البيوت لعلمهم أنهم لا يمكنهم أن يجدوا المال هناك ، ولكن الشيخ يرفض ويعتزم على الذهاب لأن ما ينظرونه وما ينظر إليه يختلف تماما، لأن الشيخ ينظر إلى من يزور إليهم الصلاح أو العهد الذي جرى بينه وبينهم، أو بين والده وبينهم.

       وكذلك اهتمامه البالغ بمن يشتغلون بالعلم سواء من الإداريين أو المدرسين أو التلاميذ، ومما يلاحظ فيه أنه إذا كان في جماعة، أو يزوره بعض الناس ورأى أحدًا من هؤلاء، يصرف جميع اهتمامه إليه ويعتبره كمثله، ويتحدث معه في أمور المعاهد ويعرض له أفكاره وأمنياته في المستقبل مما يدل على اهتمامه بأهل العلم والصلاح أكثر باهتمامه على أهل المال والجاه.

           ومما يعلم فيه أيضا أنه لا يسكت عن الباطل وإذا فعل الإنسان أمامه فعلا لا يوافق الحق فإنه يصوبه ويصحح أخطاءه مباشرة بدون انتظار، خوفا من أنه إذا لم يصححه ويراه من حوله يظنون أن ذلك الفعل غير ممنوع وينبغي فعله.

           كما نلاحظه أحيانا يحدث عند بعض الشيوخ ويسكتون عنه، فمثلا إذا كان هناك بعض الناس ينطقون أمامه كلمة لا إله الا الله وأضافوا إليه كلمة أخرى يصوبهم ويقول: وإذا كان هناك ما يمكن أن يضاف إلى هذه الكلمة هو محمد رسول الله وليس كلمة أخرى.

       وكان عازما في أمور الدين، وإذا كان الأمر يتعلق بأمواله أو بأمور الدنيا يمكن أن يتساهل فيه أو يتجاهل عنه الكثير، وكان يصبر في الضراء والبأساء كما يصبر على الطاعة وأذى البرية وكان شكواه كل شكواه فيمن يحول بينه وبين عبادة الله ومن مشهور قوله: الناس يجعلونك وسيلتهم إلى الله ويكونون بينك وبين الله حجابا.

        وإذا تعلق بالدين فلا يتساهل فيه ومن أمثلة ذلك وحكي أنه عندما تم بناء المسجد الجامع في مدينة – تياس -وهناك واحد من أصحاب الجاه ومن كبار الشخصيات هناك أراد أن يعين إمامًا في المسجد وطلب ذلك من الشيخ وتجاهل عن ذلك وحاول ذلك بواسطة أناس آخرين ولما اشتد إلحاحه به رفض وقال: هذا أمر يتعلق بالدين ويجب أن ينظر إلى من يعين عليه! وعين شخصا آخر وهذا من الأدلة على تقديمه أهل العلم على أهل المال والجاه.

        ومن أمثلة حرصه على الدين وتمسكه به كان يأمر رؤساء جمهورية السنغال إذا تقابل معهم أو زاروه يأمرهم بأن يهتموا بالرعاية على أمور الدين وأمور المسلمين ، وفي يوم من الأيام جاء من رئيس الجمهورية  - عبد جوف- وقال : قد أوصيناه أن يهتم ويقوم بتحقيق مصالح الإسلام ، ذلك مما جعله حينما يتنافس الرئيس - عبد جوف - مع الرئيس  - عبد الله واد - في انتخابات سنة 2000 م انحاز الى الرئيس عبد الله واد رجاء منه إذا تولى رئاسة البلد سيولي اهتماما بالغا بالإسلام والمسلمين، وهذا يخالف ما هو معروف في كثير من الشيوخ  إذا تقابلوا مع رئيس الجمهورية يفكرون في أمور أخرى وما يحقق مصالحهم الشخصية بدلا من التذكر بالإسلام ومصالحه.

         وأيضا أنه قد جعل الصحابة رضوان الله عليهم ووالده الشيخ الخديم قدوة له في الدين، لأنهم قد بذلوا النفس والنفيس في إقامة الدين فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ، لأن الشيخ الخديم كان يأمر الرعيل الأول من أتباعه بأن يقتدوا بالصحابة رضى الله عنهم لأنهم هم أباءهم في الدين، والشيخ مرتضى أيضا كان يقتدي بهم  لذلك أحيانا إذا جاء من سفر شاق ويشتكي بعض أصحابه من عناء السفر، يقول لهم : أنما تشتكون به ليس مشقة، لوكنتم في الحروب وتتضاربون السيوف مع الأعداء، لا تشتكون بمجرد عناء السفر، لأنه ينظر إلى أنه لو عاصر مع هؤلاء الصحابة لشارك معهم في قتالهم، ونظر إلى ما هو أعنف وأصعب مما يعانون منه، لذلك ما كان يتحمله من الصعوبات تخف وتهون عليه.

     وكان يحب الشجاعة، ويحتفظ بأشرطة الفيديوهات من أفلام الصحابة ومن بعدهم من أبطال الإسلام المعروفين بالشجاعة كعمر المختار في ليبيا ويشاهده أحيانا سواء في السفر أو الحضر ويتذكر بسيرتهم.

     وحكى الشيخ حمزة ابن الشيخ عبد الأحد في شريط فيديو مسجل منتشرا في وسائل الإعلام الدولية الاجتماعية أنه سمع من والده الشيخ عبد الأحد رضي الله عنه يقول: لقد سبقنا الشيخ مرتضى ولن نلحقه أبدًا، لأنه قد عمل بدنياه وخالط الناس حتى يظن أنه لم يجهز لآخرته شيئا، وعمل لآخرته بخلوته وعباداته كأنه نسي دنياه، وهو فريد من هذا التوازن المثالي أي لم تعقه مخالطته ومداراته عن خلوته وعباداته لم يلحقه أي واحد منا في هذا التوازن ولذلك سبقنا جميعا ولن نلحقه}.

     وهذه الشهادة تدل على مدى توازنه بالأصالة والحداثة ومدى تمسكه بدينه.

انفتاحه على واقع عصره

فإن الشيخ محمدا المرتضى امباكي كان عالما وفاهما ومنفتحا على واقع عصره.

لقوله تعالى: (يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة). وقد انفتح للأديان السماوية لأمر إلهي (لانفرق بين أحد من رسله).

        ومن مظاهر انفتاحه التوسع في العلاقات حيث لم تحل الطائفية بينه وبين أحد، حتى بنى علاقات مع غير المسلمين فما بالك بالمسلمين، وكان له مقابلات مع الرئيس العاجي الأسبق -أُوفِيَتْ بُوَاجِهْ -وعلاقات طيبة مع كثير من الزعماء والقادة المسلمين وغير المسلمين مما يؤكد انفتاحه على واقع عصره.

وأيضا قيامه بالإجراءات اللازمة عند تأسيسه المعاهد الأزهرية حيث بدأ ذلك من بحصول الإذن من الشيخ محمد الفاضل خليفة المريدين آنذاك، وسعيه إلى جميع الزعماء الدينيين من مختلف الطرق في السنغال، ثم الذهاب إلى السلطات المعنية في الإدارة المستعمرة.

         وكذلك معاملته مع الرئيس – سِنْغُورْ-الذي حلف فيما حلف: أن يجعل المسلمين السنغاليين مسلمين سلبيين وحاربه بلا هوادة لعرقلة مشروعه التربوي والتعليمي بحجة علمانية الدولة ولكن بحكمته وحنكته قد نجح في مهامه وفشل سنغور عن عرقلته في مواصلة المسير وتربية المسلمين تربية إسلامية صحيحة.

       وكان الشيخ يعلم ما يتطلبه عصره من الانفتاح، وكيف يعيش فيه وكيف يخدم الإسلام فيه، ولا يعتمد على تقليد أعمى، بأن يقلد كل ما يرى أو يسمع، بل كان يعتمد على دليل قوي بما توصل إليه علمه اليقيني، ولم يترك السبيل أو المنهج الذي سلك فيه آبائه أو أجداده، لكونه مبنيا على صراط مستقيم، وقد سلك نفس الطريق، ولكن كان ينظر كيف يوفقه مع العصر حتى يتمكن الناس من الاستفادة منه، وتتوسع أعماله، وتمتد آثارها وتعم.

       ومما يعلم في مجال التربية والتعليم في الطريقة المريدية التي أسسها والده الشيخ الخديم رضي الله عنه، وهي طريقة الصالحين من قبل وجاء الشيخ الخديم لإحيائها وتعميرها، وحينما تلقى الإذن من ربه بواسطة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتجديد الدين، فإن الأداة التي استخدمها وهي التصوف، عن طريق التربية والتعليم.  وهذه التربية كانت تتطلب وتحتاج إلى الخلوة والانتقال بهم من المدن إلى القرى، ليكون المريد في بيئة مناسبة وملائمة لها، لذلك لاحظنا أن كثيرا من المريدين كانوا يعيشون في القرى ويعيشون حياتها وذلك هو الأصل الذي بني وأسس عليه الطريقة المريدية.  ولكن حينما تغير الزمان، وكثير من الناس ليس لهم همة عالية،  لم يكادوا يتحملون ذلك النوع من التربية لهممهم السافلة أو لعوائق الزمان، أو لعدم توفر الإمكانيات لتواجدهم في المدن مع وجود حركات تقيدهم، ولا يمكن الانفكاك أو التحرر منها، وكان لهؤلاء الحق في أن نعلمهم ونربيهم مما دفع الشيخ محمدا المرتضى  إلى تغيير بعض من نمط التربية والتعليم على نحو يتواكب مع العصر ويستفيد منه أكبر عدد ممكن من الناس، مع المحافظة على النمط السابق بإيجاد القرى لتربية الناس، وإذا رأى من كان عقله يميل إلى التعلم ينقله إلى المدارس ليتعلم ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، وذلك على وجه يتناسب مع العصر مع استخدام الوسائل الحديثة مما أتاح الفرصة لكثير من أبناء المسلمين من تعلم دينهم وتربية الإسلام. 

ولولا وجود مثل هذه المدارس، ما كان تتاح لهم الفرصة لتعلم أمور دينهم. وبذلك قد وسع كثيرا من رقعة الإسلام في السنغال، لأن كثيرا من القرى لم تكن توجد فيها مدارس إسلامية عربية، وأوجدها فيها حتى تعلم منها كثير من أبنائهم، وبعضهم قد خرجوا إلى البلاد العربية لمواصلة دراستهم في جامعاتها، ولما توسعوا وتعمقوا في العلم رجعوا إليهم وبدأوا يعلمون غيرهم. وبفضل توسع هذه المدارس قد أنقذ كثيرا من الناس ليتمكنوا من تعلم الدين وذلك مما يدل على انفتاحه على عصره.      

          وكانت المعاهد التي أسسها ذات طابع عصري وجدت فيها البنات نصيبهن من العلم والتربية بجانب شقائقهن من الرجال طبق منهج دراسي يشمل مستجدات العصر ومتطلبات الحياة مع حفظ التراث الأصيل من مناهل العلوم الصافية السابقة، لأن فكرة إنشاء المدارس لم تكن مألوفة في البيئة المريدية التي كان يعيش فيها، وخصوصا في طوبى، لأن الشيخ محمدا المرتضى وسرين شيخ فاتم هما أول من قاما بإقامة المداس فيها. وقيل بأن الشيخ مرتضى أول من بدأ بفكرة الإنشاء ولكن بالنسبة للافتتاح فإن مدارس سرين شيخ فاتم افتتحت أولا، وقيل بأنه عندما قام بمحاولة بنائها بعض الناس لم يوافقوه في الرأي واعتبروا ذلك أمرًا غير لائق لا سيما يكون الرجال والنساء في فصل واحد وإن انعزلوا في المقاعد بأن يكون الرجال في جانب والنساء في جانب آخر ، وعلم الشيخ أن العدد الذي يمكن أن تستوعبه المدارس من التلاميذ لا يمكن أن تستوعبه الحلقات العلمية وما دام أنه يريد أن يوسع التعليم إلى أكبر عدد ممكن من الناس، فإن المدارس وسيلة من وسائلها ولو اكتفى بالحلقات المألوفة فقط فلا يتوسع التعليم بهذا القدر. وفكرة إنشائه المدارس دليل على انفتاحه فيما يتطلبه العصر.

       كما قام بإيفاد جماعة من الطلبة السنغاليين إلى العالم العربي رغم التحفظات وتخوفات المجتمع السنغالي من التأثيرات والتيارات الخارجية الغازية.

        وكانت لهذه الحملة العلمية نتائج إيجابية للمريدين في الشهرة العالمية وتوسيع آثارها وآفاقها الدعوية، وتكوين جيل متدين مثقف صادق الإرادة عالي الكفاءة خدموا العلم والدين في الآفاق.

      ومن مظاهر انفتاحه أيضا فلسفة توسيع الجوامع في مدينة طوبى المحروسة بجانب الجامع الكبير العتيق مع تغيير الخطاب الديني ليطابق الواقع الإنساني الاجتماعي دون الجمود والركود والتقليد الأعمى.

      ومن ذلك أيضا فتح أجهزة مالية اقتصادية لدعم المعاهد العلمية الأزهرية والجانب الدعوي ولضمان الاكتفاء الذاتي والاستقرار الأسري، حيث فتح المجاهد شركة الأزهر للنقل كمكسب رزق للخريجين الأزهريين بالدرجة الأولى، ولبعض الأئمة والقراء والمدرسين، وبعض مدرسي القرآن الكريم، والعجزة والمحتاجين وأصحاب الوصفات الطبية. وكذلك المخابز والمزارع ودور التجارة والطباعة. وباختصار كل حركة شرعية يجوز الكسب فيها كان يمارسها بقدر الإمكان.

     ومن المألوف قديما في هذه البيئة أن الشيوخ لم يكونوا يعملون أو يشتغلون إلا في مجال الزراعة، وقليل منهم هم الذين يشتغلون في التجارة بالبيع في الدكان وكثير منهم لم يقبلوا ذلك، ويظنون أن عمل الشيخ ينحصر في الزراعة فقط، ولكنه قد رأينا توسعه في أنواع العمل من الزراعة وغيرها من استيراد السلع من الخارج كالبن من الدول الإفريقية وغيرها من الأعمال التي ذكرناها آنفا، ورأى أن كل عمل شرعي جائز يمكن أن يساعده على مشروعه التعليمي فإنه يمارسه ويستعمله.

      ومن ذلك أيضا إعادة فكرة الوقف، وإن كان الوقف معروفا في الإسلام، إلا أنه لم يكن مألوفًا في المجتمع السنغالي على الوجه الذي أقامه به الشيخ محمد المرتضى بإيجاد بعض المؤسسات والمشروعات وجعلها وقفا لله تعالى وتحمل اسم الوقف، وإن كان الشيوخ يفعلونه ضمنا من أعمالهم ويقصدونه منها ويقدمون كثيرا من أعمال البر بحفر الآبار، وبناء الكتاتيب القرآنية والعلمية إلا أنهم لا يطلقون عليها اسم الوقف بالمعنى الظاهر وإن كانوا يقصدونه ضمنا.

     ومن ذلك انفتاحه على الدول الأخرى والسفر إليها ومخالطة أهلها من المسلمين وخصوصا المريدين، ومخالطة أهل تلك البلاد، والتعاون معهم، وخصوصا ما يُسَهِّلُ عملية السلام وعيش المريدين والسنغاليين فيها بممارسة دينهم وأعمالهم في تلك البلاد، ووضع لهم البرامج والوسائل التي تسهل لهم تعليم أبنائهم وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة في تلك المراكز الإسلامية التي أقامها هناك، وكل ذلك يدل على انفتاحه وبعد أفكاره ونظره في الدعوة إلى الله ونفع الناس في عصره.

        ومما يدل على انفتاحه أيضا أن كثيرا ممن كانوا يصاحبونه في السفر يحكون أنهم إذا كانوا في المطارات أو المحطات أو الأماكن العامة، فإن أصحابه لا يريدون أن يجلسوا معه في المقاعد احتراما له وتأدبا معه، لأن ذلك من عادة المريدين، ولكنه يرفض ذلك ويدعوهم بأن يجلسوا معه في المقاعد، لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك ربما تأتي امرأة أو رجل مغفل لا أخلاق له أو رجل يحمل السجاير يجلس بجواره ولا يمكن أن يمنعه منه، لذلك كان يأمرهم بأن يجلسوا بجواره، فإن ذلك يدل على الانفتاح.

   ومما لا حظته من انفتاحه أنه كان يستقبل ويقبل كل الأفكار النافعة، ولا يحقر فكرة أحد حتى ولو صدرت من الصغار، وكل من يعرض عليه فكرته يستمع إليها جيدا وإذا كانت صائبة يستفيد منها.

        ومن نتائج انفتاحه على واقع عصره سعيه المشكور في نشر الدعوة الإسلامية وتبليغ الرسالة المحمدية صلوات الله وسلامه عليه سعى بانفتاحه على العالم حتى نجح في إقامة تلك المراكز المذكورة آنفا.

        ويلاحظ أن غالبية المسلمين في السنغال ينتمون الى الطرق الصوفية سواء إلى المريدية أو التيجانية أو القادرية او الاهينية أو غيرها إلا أن هناك من لا ينتمون إلى أية طريقة ويكونون مسلمين ملتزمين بتعاليم الشريعة ويقومون بأعمال البر وتقديم الخدمات للإسلام والمسلمين، فإن الشيخ مرتضى بانفتاحه وتقبله للآخرين كان يعامل الجميع على أساس الإسلام ولا يميز بين من ينتمي إلى طريقة معينة وبين من لا ينتمي إليها مما جعله يحظى بحب واحترام وتقدير من قبل المسلمين جميعا وحتى هؤلاء الذين لا ينتمون إلى تلك الطرق فإنهم يحبونه ويحترمونه.

      ومن مظاهر ذلك الانفتاح أنه كان هناك نوع من سوء التفاهم بين المجتمع والمستعربين أي المتعلمين باللغة العربية، حيث ينظر إليهم بعض أفراد المجتمع بعين المعارضة، والاحتقار لماهم فيه، ويعتبرونهم معارضين ويشيرون إليهم ببنان الاتهام لسبب أو لآخر حتى أصبح مفهوم الطالب العربي - في بعض المقام – المعارض لما هو  في مجتمعه والمحتقر لما يعيشه قومه وبنو جنسه، وبحكمة الشيخ مرتضى ووقوفه كأب لهم ومرشد، قد ساد الوئام والتفاهم وبعض المتعلمين باللغة العربية في الخارج، قدم لهم نماذج من مدرسين وأساتذة ووعاظ ومحاضرين أكفاء؛ كان يرافقهم ويقربهم إلى الناس في تنقلاته الداخلية والخارجية، وقربهم إلى المجتمع، وفك عنهم القيود الاجتماعية، وأصبح لهم اعتبار واحترام في المجتمع، يتكلمون معبرين عن آرائهم في مجالات مختلفة، ويستمع لهم الناس خلافا للوضع السابق، حيث كان معظم الناس لا يستمعون إليهم لعدم الثقة بأقوالهم وسلوكهم.

توجهات الشيخ محمد المرتضى التنموية

          وفيما نعلم أن حركات الشيخ محمد المرتضى وأنشطته التنموية لم تقتصر بما يخص التنمية الروحية والعقلية فحسب، بل دخل أفقًا واسعا في مجالات أخرى في مجال التنمية الاقتصادية، ومارس أعمالًا متنوعة في كثير من أنواع الاستثمارات وذلك لضمان استمرارية مشروعاته التعليمية، ولتوفير فرص العمل للمتخرجين من المعاهد وليس لهم فرصة مواصلة دراستهم في الداخل أو الخارج، وللمساهمة في تنمية البلد بمحاربة نسبة البطالة فيه.  لذلك رأيناه يعمل في كثير من المجالات في الزراعة والرعي وشركات النقل والمخابز والبنزين وغيرها من أنواع الاستثمار،

      وبما أن الاستثمار نوع من أنواع العمل والكسب الحلال وهو مبدأ أساسي من مبادئ الطريقة المريدية، ومن مبادئ الإسلام لأننا نجد في نصوص متنوعة من السنة يحث فيها الرسول المسلمين على العمل وينفرهم من البطالة وسؤال الناس ويبين فيها دور أكل الحلال في إجابة الدعاء وقبول الطاعات، والعمل المشروع هو الوسيلة الأساسية لأكل الحلال وأكل الحلال شرط لقبول الطاعات، بل إن الذي يأكل الحرام تشق عليه الطاعة ولا تسهل عليه إن أرادها، ونجد ذلك في تعليمات الشيخ الخديم رضي الله عنه يشير إلى ذلك فقال :

وطلب الحلال فرض ينتمي             لكل مسلم بغير وهــــــــم

    اجتنبوا أكل الحرام يا مــــــلا              فلم يزل عن الهدى مكبلا

  التمسوا الحلال كل ســــــاعة           بأكله يبدو الهدى والطاعـــــة

  لا تدخل الحرام في البطن ولا          ما فيه شبهة بل الحـــــــل ولا

  فكل حلالا إن أرت أن تطيع          الله والرسول ياهذا المــــــــطيع

لا ينفع العلم ولا العبـــــــادة            بالأكل للحرام عند السادة

وقال أيضا:

من بالحرام عبد الله فلا               يكون إلا نادما منسفلا

      وبعد عرض هذه الأبيات المفيدة التي يعلمنا فيها الشيخ بوجوب العمل ومراعاة أوامر الله فيه بطلب الحلال والاجتناب عن الكسب الحرام لأن ذلك وسيلة من الوسائل التي تساعد المسلم على أن يتمكن من الاعتماد على النفس وتغطية حاجاته المادية بنفسه، وهو بذلك ضامن لاستقلاليته وحريته في التصرف، ذلك بأن الانسان لا يملك نفسه وتصرفاته إلا إذا ملك لقمة عيشه ووسائل حياته الضرورية ولا يخفى ما كان عليه الشيخ من الحرص على الاستغناء مما في أيدي الناس لأن ما يأتي منهم غالبا ما يكون فخا لتقييد الحرية أو سلب الإيمان.

ومما يؤكد ذلك أنه حين طلب من أتباعه مساهمات من تنفيذ مشروع عام هو المسجد الجامع في طوبى، وجمع القادة الأقساط الأولى وأتوا بها قال لهم ما معناه: إني لا أقصد من هذا جمع المال وصرفه، وإنما أريد إعطاءكم درسا عمليا مفيدا في الاعتماد على الذات وبذل أقصى جهد ممكن في قضاء حوائجكم بأنفسكم دون الاعتماد على غيركم لأن كل من يضمن لكم عيشكم يسلبكم حريتكم إذا شاء.

بناء على ذلك فإذا كان العمل والاستثمار بهذه الدرجة من الأهمية في تعاليم الشيخ الخديم فلا عجب أن يقوم الشيخ محمد المرتضى بأخذ مثل هذه الوسائل المتنوعة من الاستثمار في مشروعاته لضمان استمرارية المؤسسة لتتمكن من الاعتماد على ذاتها بحرية، وتغطية حاجاتها الضرورية في نفقاتها وما يتعلق بأعمالها.

 لذلك رأينا من الأهمية أن نتناول فيما ما يلي أهم الوسائل التي اتخذها الشيخ ويعمل فيها لدعم أعمال المؤسسة منها: الاستثمار في مجالي الزراعة والرعي وفي شركة النقل والمخابز والطباعة والوقف ونوضح ذلك في المباحث الآتية:

نشاطاته التنموية في المجال الاستثمار

وبما أن الاستثمار له آفاق واسعة النطاق ومجالات متنوعة، وكان الشيخ يرى أن كل كسب حلال يمارسه المسلم ويمكن أن يرجع نفعه للمسلمين، ويساعد به الفقراء والمساكين ويوفر لهم فرص العمل لينفقوا به أنفسهم وأولادهم، كان الشيخ محمد المرتضى يمارس هذا النوع من العمل ويشجع الناس عليه، فكان يعتبر العمل كمبدأ أساسي في منظومته الفكرية، فكان يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب مثل الزراعة التقليدية من فستق وقمح، والزراعة الفصلية من خضروات وفواكه وأرز إلى آخره.

      وكذلك النقل والتجارة بالاستيراد والتصدير من وإلى الوطن ببضائع وأشياء مختلفة، والعمل بالطباعة والخبازة ولذلك كان يعتمد على الله ويقوم بهذه الجهود الفرضية لقوله تعالى 🙁 فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) وقوله تعالى : وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وكان يمول جميع مشاريعه بهذه الجهود وهذه الأعمال، ولذلك من الأهمية بمكان أن نتناول أهم الجوانب التي كان يستثمر فيها في ما يلي :

نشاطاته التنموية في مجالي الزراعة والرعي

فإن الشيخ محمد المرتضى له باع طويل في مجال الزراعة والرعي، وطالما يتحرك ويعمل في هذا المجال، وكان له قطع أرضية كثيرة في كثير من قرى السنغال، وقد أنشأ بنفسه بعض القرى للعبادة والإرشاد قبل أن يبلغ من العمر ثلاثين عاما، كما كان يفعلها الشيوخ ويقيم فيها كتاتيب قرآنية وتربوية ، فمن لم يتمكن من طلابه من التعلم في المدارس ، فإنه يأمره بالذهاب إلى تلك القرى ويربى فيها تربية روحية إلى جانب تعلم ما يمكن أن يتعلمه من القرآن وشيء من أمور دينية ([1] ) ، والقرى التي كان للشيخ محمد المرتضى فيها أراضي زراعية ويشتغل فيها بالزراعة والرعي  منها ما يلي:

  • جُتِ سِيَانْ: وهي قرية في إقليم كفرين وفي محافظة مليم هدار، وأقام فيها كتابا بقيادة سرين حامد لوح ابن شيخ مختار بنت لوح وأقام مزارع أخرى في:
  • دارالسلام بَامْبُكْ
  • مَلِيمْ نَجَانِ
  • جيمل في جانب كيل
  • دقل
  • قرية أُجَلْدِ باستضافة ابن أخيه عبد الأحد بن الشيخ محمد الأمين بار امباكي
  • قرية كسان
  • قرية دركة في فدم
  • كيجان
  • بام جكان
  • جَمْ جِمْ
  • بيار
  • كولدا
  • بيركلان

أما القرى التي خصصها للزراعة في الموسم الصيفي أسس قرى أخرى فيها مزارع تعتمد على السقي في كل من:

  • كر ممر سار
  • أمبورو
  • جمناجو
  • رساتول
  • روسبيجو
  • بودور
  • نوتو كي جما
  • بوت.

         هذه أشهر القرى التي كان يزرع فيها زراعة تعتمد على المطر، وزراعة تعتمد على السقي ويربي فيها الناس تربية روحية كما أقام في بعضها كتاتيب قرآنية، وغلة الزرع كانت توزع مجانا على الكتاتيب وأئمة المساجد والمحتاجين دون أن يستعملها في دوره.

        وكان له أمنيات كبيرة في هذه القرى، وخصوصا في بودور، وكان من أمنياته فيها مدرسة كبيرة ومنزل، وقد كتب إلى رئيس بلدية المدينة لطلب مساحة أرضية في وسط المدينة لبناء مسجد جامع كبير فيها، وبدأ بالمدرسة وبنى فيها فصلين وبدأ التلاميذ يدرسون فيها، وحينما بدأت الدراسة جاء بعض الناس يسألون عن ماذا يدرس في هذه المدرسة أهو المريدية أو الإسلام؟ وكان بعضهم ينظرون إلى المريدية نظرة سلبية، وكانوا يعتمدون على ما يسمعونه من بعض الناس الذين يفسدون سمعة المريدين ، وجهلوا بأن المريدية جزء لا يتجزأ من الإسلام، ولا يمكن أن يكون الإنسان مريديا إلا بعد أن يكون مسلما، وأجابهم أحد مسؤولي المدرسة مرتضى عبد الأكرم  : بأنه يدرس فيها الإسلام، لأن المريدية هي الإسلام، وبعد أن درس فيها التلاميذ سنوات، جاء بعض من أهل القرية يقولون : إن ما كنا نسمعه عن الطريقة المريدية تختلف تماما عما رأيناه هنا، لأن أطفالنا حينما بدأوا بالإتيان إليكم  والتعلم في هذه المدرسة لا حظنا فيهم صفات وأخلاقا جميلة، ونفضل أن يكونوا عندكم بدلا من أن يكونوا عند غيركم !.

      كما كان يقوم بتربية الدواجن والمواشي في بعض القرى المذكورة أنفا، وكان له مشاريع كبيرة فيها تعتني بالدواجن وتعليف المواشي من بقر وضأن ومعز وجمال، وكان يعمل أيضا في مجال التجارة والبيع ويستورد بضاعات مختلفة من الخارج.

نشاطاته التنموية في المخابز

         وقد أنشأ مخابز في كثير من مدن السنغال، لتكون من ضمن فرص العمل التي يوفرها للناس وخصوصا المتخرجين من المدارس وليس لهم عمل، والمدن التي قد أنشأ فيها هذه المخابز منها:

  • مخبزة كاولاخ
  • مخبزة فاتك
  • مخبزة غينغينو
  • مخبزة طوبى أشلم

وكان يعمل في هذه المخابز عشرات من الناس، والعدد الذي كان يعمل فيها أكثر من العدد الذي تحتاجه المخابر من العمال. ولكن يوظفون هذا العدد بهدف محاربة نسبة البطالة ومساعدة الناس في توفير فرص العمل لهم، ويمكن القول بأن العدد الذي وظفتهم شركة الأزهر بجميع فروعها كان أكثر مما وظفته شركات أخرى غير الحكومية، وكان يوصيهم بالإخلاص وجودة العمل قائلا: فعليكم الإخلاص والجودة في العمل والمادة كي يطيب للمستهلك وينشرح صدره.

نشاطاته التنموية في مجال النقل والطباعة

  فإن الشيخ كما كان يشتغل في مجال الزراعة والمخابز كان يشتغل أيضا في مجال النقل والطباعة فنتناول في المطلب الأول نشاطات الشيخ في مجال النقل ثم نتناول بعد ذلك نشاطاته في مجال الطباعة.

نشاطاته التنموية في مجال النقل

        فإن الشيخ محمد المرتضى بنشاطاته التنموية لم يقتصر في مجال الزراعة والمخابز فحسب بل تعدى ذلك إلى مجال النقل أيضا أو ما يسمى بشركة الأزهر للنقل البري، وهي من أبرز نشاطاته في مجال الاستثمار، وكان الهدف من وراء إنشاء هذه الشركة هو العبادة والخدمة الاجتماعية.

      ويمكن القول بأنه هو أول من أنشأ مثل هذه الشركة التي كانت منتشرة ومنظمة بهذا الشكل، بحيث يكون لها مواعيد محددة للمغادرة من المدن والعودة إليها في أوقات معينة ومنتظمة ويعرفها الجميع.

        ونقلت عن المدير السابق لشركة الأزهر للنقل البري السيد الحاج لوح: أنه في سنة 1991 م حينما رجع من المملكة العربية السعودية للدراسة، كان للشيخ مرتضى سيارات -شاحنات -كانت تعمل في غامبيا، وكان يرسله أحيانا إلى هناك لتفقدها وتفتيش أعمالها، وكان ما يصدر منها من الأموال يأمره بأن يوزعها في الأماكن المخصصة لقراءة القرآن وهي ما يسمى بدور القران المنتشرة في طوبى وغيرها وفي الكتاتيب القرآنية، وأئمة المساجد والمؤذنين، وبعض الشيوخ الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض.

     وحكى أن واحدا من الشيوخ كان يدرس في المعاهد الأزهرية، ثم انتقل بعد ذلك إلى إمام لبعض المساجد وإشرافه، وكان يخطب في يوم من الأيام وقال: أنه حينما ترك التدريس في المدارس الأزهرية ولاحظ أن راتبه قد استمر وذكر ذلك للشيخ وقال له: أتركوه مع راتبه طالما في خدمة الإسلام والمسلمين، فإن الراتب سيستمر.

              وفي سنة 1993 م، حينما تخرجت الدفعة الأولى من حملة الشهادات الثانوية من معهد الأزهر في تياس وكان المدير آنذاك السيد خادم مصطفى عبد الرحمن لوح،  راودت الشيخ فكرة إنشاء شركة الأزهر للنقل،  لأنه قد لاحظ أن الطلاب الذين تخرجون من المدارس الحكومية، فإنهم بعد تخرجهم تدربهم الحكومة وتوفر لهم فرص العمل، بينما أن الطلاب الذين تخرجوا في المعاهد الأزهرية وحصلوا على الشهادة الثانوية معظمهم لا يجدون مهنة يمكن أن يمارسوها إلا التدريس في المدارس فقط ، وبالتالي أن جميع المتخرجين لا يستطيعون أن يحصلوا على منحة دراسية لمواصلة دراستهم في الخارج، فإنه يجب حل هذه المشكلة وإقامة هذا المشروع ليعملوا فيه ريثما يتمكنوا من الحصول على المنحة، أو ممارسة عمل آخر، لذلك فكر في إنشاء هذا الفرع من الشركة  لتوفير فرص العمل لهم حتى لا يغبطوا هؤلاء الذين تخرجوا من المدارس الحكومية، و فتح لهم فرص العمل في شركة النقل، ليتمكنوا من إنفاق أنفسهم وعيالهم وخصصها لهؤلاء المتخرجين من المدارس الحاملين للشهادة الثانوية أو الإعدادية ، عادة يعطيهم أولوية في إشراف العمل وبيع التذاكر والحفاظ على مالية الشركة .

        وبدأ الشيخ بشراء ثلاث حافلات الاثنتان منها تتناوب بين دكار وطوبى والأخرى بين كاولاخ ودكار وكان عدد العاملين فيها آنذاك 19 شخصا.

     وبعد فترة من الزمن تم شراء حافلة أخرى وكانت أربعة، وأمرهم بأن يعطوا كل واحد من السائقين 2500 فرنك يوميا حتى نهاية الشهر ويكمل الراتب حتى يبلغ 100000 فرنك.

       أما الذين يبيعون التذاكر فيعطى كل واحد منهم 1000 فرنك يوميا حتى نهاية الشهر ويكمل الراتب حتى يبلغ 45000 فرنك.

       أما الذين يأخذون الأجرة من الركاب فيكون عددهم إثنين في كل حافلة، ومن شروط اختيارهم أن يحصلوا على الشهادة الثانوية، وفي بداية الأمر كانوا يعانون بعض المشاكل لأن الحافلات ليس لها محطات خاصة تقف فيها، وإنما تسمح لهم بعض محطات البنزين بالوقوف عندها، وحينما اشتد الأمر أمرهم الشيخ بالوقوف عند منزله في كلبان، وأعطاهم هناك مكتبا ليكون مقرا لإدارة شئون الحافلات، وكان في المكتب ثلاثة أشخاص المدير الحاج فاضل لوح، وأمين الصندوق مور جوب، والمسئول عن إصلاح السيارات مرتضى سه.

     وبعد ما ازداد عدد الحافلات وكان منها حافلة تنتقل بين تمبا ودكار، وأخرى بين المدن القريبة ويقدمون ما يجمعونه من الأموال إلى الإدارة بعد كل ثلاثة أيام،

    أما الحافلة التي تنتقل بين المدن البعيدة تقدم أموالها إلى الإدارة بعد كل خمسة أيام، وتوسع الأمر بعد ذلك حتى فتحوا خط كيدوكو، ووروسوكي، واثنتان من الحافلات بين سين لويس ودكار وقد بارك الله أعمال هذه الشركة حتى تم إنجاز منها إنجازات كثيرة وشراء بعض المنازل منها كالمنزل الموجود في فاتيك، وكان يدفع بأقساط شهرية في كل شهر ب 600000 فرنك حتى كملت الأقساط، وكان في المنزل مسجد جامع ومدرسة وغيرها، والعقار الموجود في غرايوف وغيرها.

             وحكى لي السيد مام سير امباكي الذي كان مديرا لهذه الشركة بعد المدير الحاج فاضل لوح، أنه حينما كان الشيخ يعينه في هذا المنصب أول ما قاله له هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...)

للإشارة إلى أن الهدف من إنشاء هذه الشركة هو نصرة الإسلام والمسلمين، وأن المسلمين يجب عليهم أن يعدوا أنفسهم بكل الوسائل والإمكانيات الممكنة، حتى يتمكنوا من المحافظة على هويتهم، ولا يحتاجون إلى ما في يد الأعداء.

وقد بلغ عدد الحافلات في الفترة التي كان يديرها السيد مام سير امباكي حوالي ما بين 30 و 35 حافلة، وكان يعمل فيها آنذاك حوالي 300 شخص كانوا يتلقون رواتبهم الشهرية منها، وبما أن أعمال الشركة كانت من الممكن أن يقوم بتسيير أعمالها خمسون شخصا فقط، ولكن كانت الشركة  توظف هذا العدد الكبير وتدفع من رواتب العاملين فيها 13000000 أي ثلاثة عشر مليونا شهريا،  بالإضافة إلى العدد الكثير الذين  كانوا يأخذون مساعدات شهرية من إدارة الشركة ، كما كانت الشركة تدفع لكثير من الناس وصفات طبية، كما أراحت كثيرا من الركاب من مشكلات النقل التي كانوا يعانون منها  في الوطن، والأجرة التي كانت تدفع فيها كانت أجرة رمزية تناسب الفئات المحتاجة.

            ونقلت عن مرتضى عبد الأكرم قال : أنه ممن اقترح للشيخ إيجاد حافلة بين دكار وفوتا، حيث كان الناس في ذلك الوقت في أشد الحاجة إليها و يعانون كثيرا من المشاكل في التنقل بين هذه المدن، وكان الركاب إذا نزلوا من السيارة يكونون مسرورين جدا ويقولون أنه يجب زيادة الأجرة لأنها قليلة جدا بالمقارنة مع جودة هذه السيارات ومتعتها لأنها أراحتهم من وعثاء السفر ومشقاته، وسهلت لهم الطريق، وحينما حكى ذلك للشيخ بأن الناس يقولون بأنه يجب زيادة الأجرة لقلتها وقال : لا، نحن قد سمعنا أنهم كانوا يعانون مشاكل وصعوبات في الطريق، وإنما أوجدناها لإراحتهم والتسهيل لهم، والجدير بالذكر  أن هذه الشركة قد أدخلت ثورة في المواصلات في السنغال، حيث اقتدى به كثير من المستثمرين، وفي يوم من الأيام جاء واحد من المسيحيين إلى الشيخ وقال له :  إنني لست مسلما، ولكن  جئت لأشكرك لأنك قد قدمت لنا خدمات لا بد أن أشكرك فيها، لأنه لم نكن نتوقع أو نفكر في أنه يمكن أن يأتي يوم يخرج الإنسان من دكار ويصل إلى كيدوكوا في نفس اليوم وكان السفر مرهقا جدا وكنا نعاني فيه كثيرا من الصعوبات  والمشقات لذلك جئت لأشكرك.

        إن الشيخ لم يكن يستثمر في الحافلات فقط بل كان يمتلك أيضا شاحنات لنقل البضائع، وشاحنات لنقل البنزين ونقل التراب وقد وكل الشيخ سميه مرتضى عبد الأكرم أمر إدارتها وتسييرها.

      وقد نقلت عنه في مقابلة معه بأنه حينما تولى أمر إدارتها وأصبح  قد بلغ عدد شاحنات نقل التراب وأنواع أخرى من الشاحنات حوالي 40 وأكثر، وكانت هذه الشاحنات تتعامل مع كثير من الشركات التي تشتغل في هذا المجال في السنغال، كشركة  CSE وSccieter، و Abb وRazel و CDE  وهذه الأخيرة هي الشركة التي تولت ترميم مسجد طوبى، حتى آخر الجسر الذي أقيم في بودور كانت هذه الشاحنات تتعامل معهم و تقوم بنقل الأحجار والتراب إليه، وكان هناك تعاقد بين  الشاحنات وشركة Sococim، لنقل الإسمنت بين السنغال ومالي، وكذلك بين السنغال وغامبيا، ولنقل الأحجار لأنها كانت صعبة في غامبيا.

          وهناك فرع آخر أيضا لشركة الأزهر، وهو شركة الأزهر للبنزين، ونادرا ما رأينا من الشيوخ من عمل في هذا المجال، لأن تراخيص العمل فيه لم تكن سهلة ومتاحة ومتوفرة للجميع، لأن الحكومة لم تكن تمنح للأفراد أن يعملوا في هذا المجال إلا الشركات الكبرى، كشركة: total وshell  وغيرها من الشركات الكبرى. وقد بدأت الحكومة في سنة 1998 م بإصدار قانون يسمح للسنغاليين والقطاع الخاص بالعمل في هذا المجال، وقبل ذلك لم يكن الحصول على تراخيص يبع البنزين متاحا إلا لبعض الشركات كما ذكرنا.   

     وتصور المشرفون على شركة الأزهر للنقل أنه إذا أقيمت شركة الأزهر للبنزين إلى جانب شركة النقل قد تترتب عليها نتائج إيجابية، لأن ما كان تستهلكه هذه الحافلات من الوقود والبنزين كانت كمية كبيرة ومكلفة جدا ومعظم النفقات يرجع إلى هذه النفقات، لذلك فكروا في إقامة هذه الشركة لتسهيل أعمال شركة النقل، ولترجع نفقاتها إلى نفس الشركة، وحينما عرضت الفكرة للشيخ قال: طالما كنا نفكر في إقامتها، ولكن لم نكن نجد من يساعدنا بإدارتها وتسييرها.

    وكان هناك شركات قليلة سبقت الأزهر في إقامتها ك Elton وغيرها من الشركات القليلة.

          وفي سنة 2003 م منح للأزهر وأصدر له ترخيصان أحدهما لنقل البنزين بين المدن، والآخر للبيع أو للتوزيع، وكان من أمنيات شركة الأزهر للبنزين إقامة محطات البنزين في جميع المدن التي تتواجد فيها حافلات الشركة، وترجع جميع نفقاتها مما يتعلق بالبنزين وغيرها إليها، وتكون لهذه المحطات نفس الشعار ونفس اللون الذي تحمله شركة الأزهر للنقل. وقيل إن الشيخ كان له محطة بنزين قبل إقامته لهذه الشركة، ولكنها اختلفت في كيفية عملها مع هذه الشركة لأنها كانت تأخذ البنزين من الشركات الكبرى المذكورة آنفا وتبيعه وترد رأس المال ثم يكون الربح بينهما. أما هذه الشركة قد أصبحت مثل تلك الشركات الكبرى تماما وتمتلك من المزايا مثل ما تمتلكها، وتأخذ البنزين من حيث تأخذ الشركات الكبرى وتبيع لآخرين، وكانت لمحطات البنزين التابعة للأزهر لون أخضر ليكون شعارها وه

وشعار الإسلام وهو أول من أخذ هذا اللون شعارا له، ثم نسخه منها فيما بعد بعض محطات البنزين الأخرى التي نراها حاليا ك Touba oil’s.

       ونقلت عن مدير الشركة مام سير امباكي بأن الشركة كانت تحصل على مبلغ 200000000 مليون شهريا لمدة سنة كاملة.

نشاطاته التنموية في مجال الطباعة

إن الشيخ محمد المرتضى قد عمل أيضا في مجال الطباعة والنشر وهو ما يسمى بشركة الأزهر للطباعة، وكانت تطبع فيها الكتب والمجلات حيث تمركز المقر بعمارته في حي كلبان بدكار العاصمة، وكانت هذه الشركة أيضا فرصة عمل لتوظيف بعض الناس الذين لا يجدون عملا لظرف من الظروف. وقد بدأت الفكرة في جهاز الكومبيوتر الماكنتوش الذي اشتراه الشيخ، وكان نادرا في السنغال في ذلك الوقت، وخصوصا الجهاز الذي يكتب بالحروف العربية، وكان يعمل به ابنه سرين يوسف امباكي.  وقد أرسله الشيخ إلى فرنسا لشراء البرنامج المسمى بالناشر الصحفي وهو برنامج مخصص لكتابة الصحف والمجلات، وكثير من المستعربين آنذاك إذا أرادوا أن يكتبوا شيئا يتعلق بالعربية من الكتب أو المجلات أو ما شابه ذلك يأتون إليه ليكتبها لهم، وقبل ذلك كانوا يكتبونها بالآلات الكاتبة.

     وكان الشيخ يوسف المذكور يعرض للشيخ أحيانا بعض القصائد للشيخ الخديم أو المخطوطات التي كان يكتبها بهذا الجهاز وكان الشيخ يتعجب به جدا حتى أتته فكرة إنشاء المطبعة في سنة 1991م. وكان للشيخ قديما فكرة إنشاء المطبعة حينما كان الشيخ مصطفى عبد الرحمن لوح يشتغل في هذا المجال، ولكن لما رأى ابنه سرين يوسف يحب العمل في مجال المطبعة راودته الفكرة مرة أخرى، وربما ذلك مما شجعه على إنشائها. وكان أيضا ممن أغراه على إنشائها رجل يدعى مور تال آن الذي كان يشرف على مطبعته، وكان لأبيه علاقة وطيدة بالشيخ مرتضى، وهو ممن ساعدوه على الحصول على بعض أجهزة الكومبيوتر.

        وكان هدف الشيخ من إنشاء هذه المطبعة في البداية هو طباعة المصاحف وقصائد الشيخ الخديم فقط ولكن الذين يشرفون على هذا العمل كانوا يرون أنه لا بد من توسيع دائرة العمل ليشمل أعمالًا أخرى من أعمال المطبعات حتى يكون لها رأس مال تستطيع من خلالها ضمان استمرارية أعمالها بدلا من الاكتفاء بطباعة المصاحف والقصائد فقط. وكان للشركة إقبال كبير من الناس والهيئات الأخرى لطلب ما يحتاجون إليه من الخدمات لتصنعها لهم. 

     وكان سرين يوسف مديرا للمطبعة لفترة 1991-1997 م وكانت المطبعة آنذاك من أولى المطبعات التي كانت تعمل وتعالج النصوص العربية في السنغال إن لم تكن أولها.  وكان الانترنت نادرا في ذلك الوقت وكثير من الناس في البلد لم يعرفوا حتى اسمه، وأخيرا قد تحسن الوضع كثيرا حتى حصلت المطبعة على أهم الأجهزة التي تحتاج إليها في ذلك الوقت، وكانت من أفضل المطبعات في السنغال في زمانها، وكانت في المرتبة الرابعة من أكبر المطبعات، حيث سبقتها ثلاث مطبعات في دكار، أما الباقية فكانت على مستواها في التقدم والأجهزة وإن لم تصل إلى ما وصلت اليه المطبعات في الوقت الراهن من الأجهزة المتطورة التي يبلغ ثمنها الملايين من الفرنكات ولكن كانت على مستوى زمانها. 

     وقد أشرف على إدارتها وتسييرها كثير من الناس بعد سرين يوسف، وممن تولى إدارتها السيد: عباس جوب وهو من أحفاد لتجور جوب وكيت، وبابكر امباكي ابن سرين ابر ندر، ومور تال آن الذي سبق ذكره آنفا، وشريف لوح، وغيرهم.  وربما كثرة المديرين وسوء الإدارة وعدم إستقراريتها مما عرقل أعمال المطبعة من التقدم، لأن البعض لم يكونوا مؤهلين لإدارتها مما جعل العمل يتوقف أحيانا ويتقدم أحيانا أخرى، ولو كانت على يد واحدة لتحسنت الأمور وربما تكون في الوقت الحالي من أكبر المطبعات في السنغال، لأن هناك مطبعات كانت في مستواها في ذلك الوقت قد صارت من كبار المطبعات في هذا الوقت.

 

الشيخ محمد المرتضى ودوره في إحياء الوقف في السنغال

إن مكانة الوقف وآثاره الحميدة عند المسلمين لا تخفى على أي عاقل، وكذلك صلته القوية التي كانت تربط بين ماضي المسلمين وواقعهم على مر العصور، لذلك قد لفت انتباه العلماء والباحثين، واهتموا به اهتماما بالغا وأولوه عناية فائقة، وكان عندهم محل رعاية متواصلة، وقاموا ببيان أحكامه وتوضيح رسالته الدينية وأهميته الاجتماعية في حياة المسلمين، لكونه معتبرا من أحد الأعمال الخيرية والطاعات والقربات التي شرعها الإسلام ونادى إليها ورغب فيها.

     ويعتبر من أهم المصادر الرئيسية لحيوية المجتمع الإسلامي وتنميته، ويجسد بشكل حي ومباشر للقيم التي تبناها الإسلام ويهدف إلى التكافل الاجتماعي، وترسيخ مفهوم الصدقة الجارية من خلال إعانته للحياة في المجتمع الإسلامي بمنافع تتسم بالاستمرارية والتجدد.

     وكان متواترا بين الأجيال حاملة مضامينها في سلوكيات عملية تظهر من خلالها وعي أفراد المجتمع الإسلامي بمسئوليتهم الاجتماعية وزيادة مستوى اللحمة والايمان واهتمام المسلم بقضايا إخوانه المسلمين ويجعله في حركة مستمرة ودؤوبة تجاه همومهم واحتياجاتهم، وقد أدرك الشيخ محمد المرتضى امباكي هذه الأهمية البالغة للوقف ودوره في تنمية المجتمع الإسلامي عموما، والسنغالي خصوصا لذلك قد لعب دورا هاما لإحيائه في السنغال وخارجها بشكل متميز يختلف عما كان يحييه السابقون من الشيوخ وأصحاب الأموال، لذلك نرى من الأهمية أن نتناول في هذا المبحث دور الوقف وأهميته في الإسلام، وعناية الشيخ محمد المرتضى بالوقف.

دور الوقف وأهميته في الإسلام

إن الإسلام قد أعطى لنظام الوقف اهتماما بالغا وأهمية كبرى، لكونه سمة من سمات المجتمع الإسلامي ومن أبرز نظمه في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والإسهام بشكل فعال في الحياة العلمية والعملية لأبناء المجتمع،  مما شجع على  المسلمين الذين يرجون تجارة لن تبور، ويحتسبون الأجر  من الله عز وجل، يتسابقون إلى إيجاده وتحصيل ثوابه بشتى الطرق الممكنة والوسائل المتوفرة، مما جعله أيضا موضع اهتمام من العلماء والفقهاء ووضعوا الاحكام التي تضبط معاملاتها بهدف المحافظة على أموالها وتنميتها واستمرارية تقديم منافعها إلى المستفيدين من ناحية، ووضع الضوابط التي تحفظ هذه الأوقاف وتصونها من طمع الطامعين من ناحية أخرى، فلذلك نمت أحكام الوقف ورسخت قواعده، وصارت متكاملة الجوانب.

      فهو سبيل لخدمة الدنيا بصحيح الدين لصيانة البشرية بحماية المجتمع من مخاطر الحقد والحسد والكراهية ونشر الفوضى، بانتشار السرقة والسلب بالإكراه، فكان الوقف مانعا من جرائم تقع بسبب حاجة المحتاج، فتدفعه إلى الانحراف وارتكاب ما حرمه الله عز وجل.

        وجعل الإسلام الوقف يحمي المجتمع، ويسبب التماسك بين أفراده، ويزيل الحقد والكراهية، بغرس عوامل التعاون والتعاضد، وكلها فروض تلزم بالوقف الضامن لقدسية المال الخاص، الذين يكون من نصيب الأغنياء والأثرياء، كما يحافظ على روح المحتاج من الفقر والجوع والمرض لذلك قد كثرت وتعددت وجوه البر وعمل الخير، وأنواع الإنفاق التي توضع في مواضعها، بحيث لا تؤخذ  من القادرين الموسرين الأثرياء كالزكاة، بل يخرجونها هم بمحض الرغبة في فعل الخيرات، يستفيد منها جميع أصحاب الحاجات من فقراء وطلاب علم وأرامل وأيتام وأبناء سبيل، إلى سائر الأعمال التي تخدم العامة، كالمساهمة في بناء المساجد والمدارس والمساكن وشق الطرق وحفر الآبار وإماطة الأذى عن الطرق، وإصلاح الأبنية والسبل ودور العبادة وإيواء المهاجرين سواء في المناطق المنكوبة، أو الممتحنة بتقلبات الطبيعة صيفا وشتاء.

       وهو نوع من أنواع الترابط والتراحم الاجتماعي، وصلة لربط السلف بالخلف، وسبيلا لإعمار المؤسسات الخيرية الاجتماعية والاقتصادية المختلفة كالمكتبات والمصحات وبيوت الفقراء وغيرها، وهو مظهر من مظاهر الحيوية الاجتماعية، وتعبير واقعي عن النزعة التكافلية التي حضت عليها التشريعات الإسلامية، إلى جانب أن للوقف دورا كبيرا في حماية الأسرة والمحافظة على تماسكها باعتبارها الوحدة الرئيسية في التنظيم الاجتماعي،  وبغض النظر عن التطوير المستمر لهذه المؤسسات إلى صيغ أكثر تجددا ومواكبة لمفاهيم العصر التي توجد فيه، إضافة إلى الاختلاف في كمية وكيفية تقديم الخدمات بين مؤسسة وأخرى، إلا أن توفير العلاج والغذاء ومياه الشرب والمأوى والملبس والمأمن والتعليم والمساعدات الخاصة هي في ذاتها تلبي احتياجات لا غنى عنها للمجتمع خاصة على مستوى الأسر الفقيرة لرفع مستواها الاقتصادي والعلمي والفكري ولضمان استمرار وظيفتها الاجتماعية تماشيا مع ما نادت به الشريعة الإسلامية.

     ويمثل الوقف حركة حضارية فاعلة لضمان الاستقلال الحركي لمؤسسات مجتمعة مختلفة سواء كان ذلك في مجال العلم والتعليم، ويمثل مصدرا وأداة للاستقلال التمويلي عن السلطة بما يضمن حركة استمرار واستقرار لتلك المؤسسات، فالمؤسسات الوقفية قد أسهمت وبفاعلية في مختلف مناحي الحياة،

   وساعدت أيضا في تنشيط حلقات البحث العلمي والتبادل الثقافي بين بقاع العالم الإسلامي نتيجة التيسيرات المعيشية التي وفرتها للعلماء وطلبة العلم الذين يتنقلون بين الأمصار وهم على ثقة تامة بأنهم سيجدون سبل الحياة الكريمة أينما ذهبوا وسيجدون مصادر العلم ومنابعه الصافية وبخاصة الكتاب الذي يعتبر أساس العملية التعليمية، والذي لا يمكن الحصول عليه لأي أحد، فاهتم به العلماء وأهل الخير وجعلوه في دائرة الصدقة الجارية، من باب " وعلم ينتفع به " لذلك كثر وقف الكتب في مختلف العصور حتى أصبح في الفقه الإسلامي ما يسمى "فقه تحبيس الكتب ". وقد أحصى ابن الجوزي عدد الكتب الموقوفة في مكتبة واحدة هي المدرسة النظامية في وقته فبلغ ستة آلاف كتاب. 

     وفي مكتبة الأزهر بلغ عدد الكتب الموقوفة ألف مصنف وهي عبارة عن 19 ألف مجلد، وفي سلطنة عمان توجد أوقاف خاصة للكتب، الهدف منها شراء الكتب ونسخها، وصيانة الكتب القديمة وتجليدها، كذلك توجد أوقاف للمعلمين يصرف من ريعها رواتب معلومة لمعلمي القرآن الكريم ، وأوقاف أخرى للمتعلمين، ولم يقتصر أثر الوقف على الجوانب المدنية من صحة وتعليم وضمان اجتماعي وغيرها، بل تعدى ذلك إلى النفقات العسكرية التي تثقل كاهل الدولة فنجد أن الوقف قد تكفل بهذا النوع من النفقات من خلال وقف عقارات وأراض زراعية يصرف ريعها للمجاهدين في سبيل الله أو وقف الخيول وعتاد الحرب ، كما ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أما خالد فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وعتاده في سبيل الله.

      كذلك أيضا في الجانب الأمني كان للوقف دور عظيم في تعمير القلاع والأبراج الحصينة والأسوار على المدن والقرى لحمايتها من العدوان الخارجي والتسليح للدفاع عن حمى الأمة وأمن أبناءها.

       وفي الجانب الاقتصادي تكمن أهمية الأوقاف في اعتبارها أسلوبا من الأساليب الاقتصادية المهمة في العصر الحديث في توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية ولا عجب في ذلك فقد تنامى وأموال الخيرات والتطوع في المجتمعات الحديثة كما تعاظمت دور المؤسسات المجتمع المدني والطوعي فيها كأحد المقومات المجتمع الشورى الحديث.

    وقد انفردت الحضارة الإسلامية بمميزات وخصائص متعددة قريبة من روح وفطرة الانسان كمخلوق كرمه الله سبحانه وتعالى، ويعتبر الاتجاه الخيري، حيث يأبى الإسلام أن يترك المحتاجين وذوي الفاقة والحاجة يواجهون صعوبات الحياة دونما أي تدخلات من المجتمعات والدول وأهل الخير، لقد أوجب الإسلام التكافل الاجتماعي، وجعله مطلبا في ذمة المجتمعات والدول والأفراد على حد سواء يتوجب القيام وأدائه على أحسن وجه، وما نظام الوقف إلا معلم من تلك المعالم الإنسانية الرائدة التي تميزت بها الحضارة الإسلامية على مر التاريخ.

          وحينما حث الإسلام على هذا المبدأ الخيري والإنساني فإنه قد بين الموارد الأساسية لتلك الاحتياجات والمطالب، مثل الزكاة والصدقة والوقف والغنائم والكفارات وغيرها، ومع أهمية كل ما سبق من موارد فإن الوقف بمواصفاته ونمطه المميز، يظل المنهج الفريد المتميز الذي يتسم بإنسانيته وخيراته الاستثنائية والتي تتميز به الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي، وقد ظهرت آثاره العملية في مجالات متعددة شملت الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية عامة، والفئات المحتاجة خاصة.

        وقد دعا الإسلام إلى التعامل بهذا النظام، وجعله تعاونا ملموسا بمنطق الدين وعاطفة الإنسانية التي تؤكد فطرتها السليمة، وترتب عليها جزاء الاحسان الإلهي سواء أكان ذلك في الدنيا أو الآخرة ثوابا حسنا من عند الله ومكافأة ربانية بالقرض الحسن أو المضاعفة بالأجر، فالحسنة بعشر أمثالها وزيادة لا نقصان.

لقد جعل الإسلام الوقف في منزلة كبرى، بل جعله من أولويات المجتمع المسلم، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد طبق الوقف وأوقف أرضا على فقراء المسلمين، وعثمان بن عفان الذي اشترى بئر رومة وأوقفها على سقيا الناس فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم نظام الوقف وطبقه التطبيق العملي في بناء مسجد قباء بأموال المسلمين كما قال جابر بن عبد الله: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف.

     وقد شرع من أجل المنفعة العامة والخاصة، فحينما يشعر الفقراء والمحتاجون وأصحاب الطلبات المعاشية المأزومة بقلة الموارد، وتضغطهم الحياة، يجدون في الوقف متنفسا، حيث يقدم لهم العون ويشعرون بالتضامن، وترى الوقف ملزما في قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم). وقوله تعالى: (ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)

      فإنه يسارع ويسابق ويتنافس في وجوه البر وعمل الخير وهو رغيبة من رغائب النفس المسلمة كما في قوله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)

        فهو يقدم منظومة تكافلية بحزمة من الضوابط بالأركان والشروط بنظام لا يضغط على الغني فمنع الحكمة من المال الخاص، ولا يترك أصحاب الحاجات يتحيرون بعدم وجود من يقضي لهم حاجتهم، هذا من أجل بناء مجتمع رشيد.

       ويمكن القول بأن الأوقاف في واقعها الحيوي قد خلقت إطارا تكافليا تضامنيا مشتركا بين المجمع والدولة حيث لا يعمل هذا النظام لحساب مصلحة طرف دون طرف آخر، فلم يعمل على تقوية المجتمع في سبيل إضعاف الدولة، أو بسط نفوذ الدولة على حساب الحقوق الاجتماعية، وإنما عمل على إيجاد التوازن بين تقويته بين المجتمع والدولة، مما كان الأثر الكبير في استقرار وقوة الكيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة.

     كذلك أثرت المؤسسة الوقفية بإمكانياتها المختلفة مجالات رفاهية لأبناء المجتمع الإسلامي وذلك بتغلغلها في كافة مناحي الحياة المختلفة، فلا تكاد تخلوا جزئية من جزئيات معيشية الانسان المسلم إلا وكان للوقف دور مؤثر فيها، ولكن رغم كل ذلك يرى بعض الباحثين المعاصرين أن الأوقاف كمؤسسة خيرية في المجتمعات الإسلامية قد تراجعت نظرة الناس إلى أهميتها في عصرنا الحاضر، وذلك لتولي الدولة جوانب من حياة الناس الاجتماعية والتعليمية والصحية وغيرها من ناحية، وقلة وعي الناس بأهمية الوقف ودوره في خدمة مؤسسات المجتمع المدني من ناحية أخرى مما كان لذلك الأثر السلبي في انحسار هذه المؤسسة واضمحلال في القيام بدورها المنشود في بناء حاضر هذه الأمة ومستقبلها الحضاري لذلك كله لابد من صحوة شاملة لإحياء دور الوقف وإبراز أهميته في واقع حياة الناس، وهذا لا يتحقق إلا بالعمل المنظم الذي تتكاتف فيه الجهود المخلصة من كافة الدول الإسلامية والتوعية الإعلامية بطرق مبتكرة من شأنها توضيح الصورة بأهمية الوقف في الحياة اليومية وبناء المؤسسات الاجتماعية.

     ويمكن الاستخلاص مما سبق أن للوقف الإسلامي بعدين أساسيين أولهما ديني تعبدي، والآخر اجتماعي تنموي، وله ببعديه كليهما أهمية كبرى في تنمية المجتمع باعتباره وسيلة ناجعة لتحقيق أهداف منها:

  • امتثال أوامر الله بالإنفاق
  • تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة والتوازن الاجتماعي حتى تسود المحبة والأخوة ويعم الاستقرار.
  • تنمية المجتمع في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية وغيرها، وصلة الرحم وضمان مستقبل ذوي القربى حتى لا يكونوا عالة يتكففون الناس.
  • ضمان ثواب متصل وأجر غير منقطع حتى بعد الموت.
  • حفظ حاجات الإنسان الضرورية من الكليات الخمسة وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
  • إقامة شعائر الدين عبر الكتاتيب والمدارس والمساجد وإحياء المواسم والجهاد.
  • رعاية الأيام واللقطاء والمحتاجين بالإيواء والعلاج.
  • مكافحة الفقر وقلة الدخل لدى الفقراء والمعوقين.
  • تقليل ضغط البطالة وتخفيف وطأتها من خلال خلق فرص العمل للعاطلين.

       ونظرا لهذه الأهمية البالغة والدور الذي يلعبه الوقف في خدمة الإنسانية والمجتمع وتنميته لذلك اهتم المسلمون قديما وحديثا عبر التاريخ بالوقف كما أشرنا إليه سابقا فوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وقف ومن بعده من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، واستمر المسلمون من بعدهم في إحياء هذه السنة النبوية الشريفة التي تمثل عطاء منظما معتمدا على ذاته ماليا فوقفوا في المجالات التي ذكرناها وهي : إقامة الكتاتيب والمساجد والمقابر وعمارتها بالرعاية والإصلاح والتطوير وإنشاء المكتبات العامة وتزويدها بالكتب والأدوات اللازمة، ونشر الدعوة الإسلامية بطباعة الكتب وتوزيعها، ودعم الدعاة والوعاظ وبناء الملاجئ لإيواء اليتامى واللقطاء والمهتدين الجدد، وإنشاء المصحات والمشافي.

إن الوقف في الساحة السنغالية معروف كما هو مكتوب ومبين في الكتب الفقهية  في التاريخ الإسلامي من عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرورا بعهد الصحابة والتابعين والتطورات التي حدثت فيه إلى يومنا هذا،  وتتحدث عنه الكتب وعن أركانه وشروطه وما يتعلق به من أحكام، إلا أن الساحة السنغالية لم تكن تعرف الوقف قبل الشيخ محمد المرتضى – حسب علمنا – تطبيقا مقصودا ومنظما بصورة معلنة فيما مضى فقد كانت الكتاتيب والمدارس والمساجد تنشأ وتبنى في طول البلاد وعرضها، وكانت تعلب دور الوقف في صرف منافعها إلى ذوي الحاجات دون أن يطلق عليها اسم الوقف مما كان يجعلها بعد رحيل منشئيها تركات في أيدي الورثة يتصرفون فيها كما يشاءون فيختفي بذلك دور ذلك الوقف والهدف الذي من أجله أنشأ.

عناية الشيخ محمد المرتضى امباكي بالوقف

           وتتميز شخصية الشيخ محمد المرتضى بالانفتاح في العالم والاندماج بذوي أيدولوجيات مختلفة، وكثرة التجارب بالاختلاط بشعوب متنوعة ومختلفة مما ساعده على فهم عصره ومتطلباته، وما يحتاج إليه العالم الإسلامي والشعب السنغالي من حل مشاكل الحياة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، ورأى أن السبيل الأنجح في ذلك منها تربية النشء ونشر العلم بتعاليم الإسلام ومحاولة الاعتماد على الذات في الخدمة والعمل، والتقيد بتعاليم الشريعة في الطرق التي وضعها لحل مشكلاتهم. ومنها الزكاة والوقف والصدقة والهبة وغيرها من الأعمال الخيرية التي يعود نفعها إلى المحتاجين من المجتمع، مما جعله دائما يكرر بعض الآيات القرآنية التي تحتوي في مضمونها تلك التعاليم السامية تحث المسلمين على الاستعداد الكامل لأعداء الإسلام بكل الطرق والوسائل الممكنة واعتبر ذلك فلسفته في الحياة ومن ذلك قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوا الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).

       فالآية الكريمة دعوة صريحة للمسلمين إلى إعداد العدة وهي القوة المعنوية والمادية اللازمة والمناسبة للمواجهة الحتمية التي يفرضها الواقع وهذه القوة المطلوبة تتمثل عند الشيخ محمد المرتضى في تكوين متكامل للشباب يكونون قادرين بموجبه على التفاعل مع الحياة حضاريا ووفق التعاليم الإسلامية بصورة إيجابية، وتدربيهم على الاعتماد على الذات يستطيعون من خلاله اتخاذ المواقف اللازمة بحرية تامة على أساس من مبادئ الدين الثابتة، والحضور الإيجابي للإسلام  في الساحة العالمية، يقيه من سياسات التهميش والتعتيم التي يسعى العدو إلى فرضها عليه.

إن فهم الشيخ العميق لمعنى هذه الآية الكريمة، لما جاء ووجد حالة الوقف كما وصفنا فكان له موقف آخر تجاه الوقف وقام بتجسيده وتطبيقه تطبيقا عمليا على الشكل المعروف في الإسلام لأنه رأى أن في نظامه أداة فعالة للمساهمة في إيجاد هذه القوة المطلوبة واعتبره مصدرا أساسيًا لتمويل مشروعه الجهادي الكبير الذي تركز أساسا على التربية والتعليم.

لذلك قد وقف معظم أمواله وجعلها في سبيل الله ينتفع بها المسلمون وكتب في رسالة ورقية يؤكد فيها ذلك وجاء في نص الرسالة وقال:

" بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم الحمد للله رب العالمين، إن وليي الله وما توفيقي إلا بالله ليعلم كل من وقف أو سيقف على هذه الحروف التي أكتبها بخط يميني أنني أشهد الله وأشهد الملكين الكاتبين بأنني شرعت بلا توقف ولا التفات في تنفيذ ما نذرت على نفسي لله تعالى، وجعلت مؤسسة الأزهر الإسلامية وجميع المراكز التابعة لها في كل من : كاولاخ، بامبي، تياس، سين لويس، جوربل، وغيرها من الملحقات وما فيها من المباني والعقارات وكل ما صدر وما سيصدر منها وقفا لله تبارك وتعالى، فلا يتصرف فيها بأي وجه من الوجوه إلا في ما يرضي الله ورسوله.

وأسأل الله أن ينفع بهذه الأعمال كل من عمل فيها، أو سعى في سبيل تحقيقيها أو أعان على تحصيل شيء منها وأن يغفر لي ولكافة المسلمين.

                          والله على ما نقول وكيل

             الحاج محمد المرتضى امباكي مؤسس المعاهد الأزهرية

             ورئيس اتحاد المؤسسات الثقافية الإسلامية بالسنغال "([1] )

فالمجالات التي طبق فيها الشيخ الوقف تطبيقا عمليا تتمثل في مجالات متعددة بعضها في منطقته منها :

  • قطع أرضية مملوكة له أو مسأجرة خصصها للمعاهد الأزهرية التي أنشأها داخل البلاد وخارجها لتربية أولاد المسلمين وتنشئتهم تنشئة إسلامية صحيحة ، وقد مكنت هذه المعاهد أجيالا متعاقبة من الشباب السنغالي بمختلف طوائفه وطبقاته من تلقي تكوين تربوي وقوي ساهم إلى حد بعيد في تنميتهم روحيا واجتماعيا دون أن يكلفهم ماديا كبير عناء لرمزية المساهمات التي يطالبون بدفعها، تلك المساهمات التي اضطر الشيخ محمد المرتضى إلى الموافقة عليها على مضض، فقد كان يسعى دائما إلى تحقيق مجانية كاملة للتعليم الديني إلا أن الظروف لم تكن لتساعده للوصول إلى ذلك كما كان يتمنى.
  • كتاتيب ومساجد بناها من تمويله الخاص وزودها بمستلزماتها الضرورية، واختار لها معلمين وأئمة أكفيا أوجد لهم دخلا مقبولا وهم متواجدون في مدن وقرى كثيرة، ويقومون بجهود دعوية وتوعوية مباركة.
  • مخابز من الطراز الحديث أقامها في بعض المدن الكبيرة ليصرف ريعها في تسيير المدارس والمساجد ونحوها.
  • شركة الأزهر للنقل البري تستخدم حافلات فاخرة لتربط بين معظم المدن الكبرى بالسنغال في رحلات منتظمة تتميز بالسرعة والامن والامتاع والراحة على خلاف المعهود في وسائل النقل العام في السنغال.
  • وحدات سكنية ألحقت ببعض المعاهد ووقفت على العاملين فيها ولغيرهم من الغرباء والمهتدين الجدد.
  • محلات تجارية تابعة لبعض المعاهد خصص ريعها لدفع فواتير المياه والكهرباء ونحوها.
  • مطابع تقوم بطبع الكتب الإسلامية والثقافية النافعة ونشرها.
  • مراكز ثقافية واجتماعية أقيمت بقيادته في كثير من دول أفريقية وأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية بهدف إيواء الجاليات المسلمة القادمة إلى هذه البلاد وتعليم أبنائهم مبادئ الإسلام وتنظيم لقاءات فكرية وثقافية وإحياء الشعائر الدينية الجماعية. 

       هذه من أهم الأمور التي تركها الشيخ محمد المرتضى امباكي وجعلها وقفا لله تعالى ويرجع نفعها إلى عامة المسلمين ولا تكون من ضمن ما يرثها أولاده منه.

    ولا شك أنها بطبيعة الحال لا بد أن يكون لهذا الوقف الذي تبناه الشيخ آثار إجابية ملموسة تلقائيا على المجتمع الإسلامي عموما وعلى المجتمع السنغالي خصوصا، ومن تلك الآثار منها :

        تسيير مشروعه التربوي الذي استطاع بفضل هذا الوقف أن يتقدم إلى حد بعيد في أداء مهمته بفعالية كبيرة تمخضت عنها آثار إيجابية استفاد منها كثير  من المجتمع السنغالي.

ومن تكلم عن الآثار لابد له من الإشارة إلى توسيع دائرة التعليم الديني لتشمل طبقات عديدة كانت محرومة منه، وذلك بفضل معاهده الأزهرية المنتشرة  في المدن والقرى مفتوحة أبوابها بلا اعتبار انتماء ولا جنس ولا لون ولا لغة ولا سن، وتتمتع المعاهد بميزات جعلتها المفضلة لدى كثير من الدارسين والأولياء، ومن ميزاتها أيضا جودة الأداء التي يبرهن عليها التفوق الملحوظ لدى طلابها الذين يشاركون في المسابقات التي تجرى للدخول إلى سلك التعليم الرسمي، أو للحصول على منح دراسية لمواصلة التحصيل في الجامعات العربية والإسلامية.

 ومنها أيضا قلة التكاليف التي يتطلبها الالتحاق بها والانتماء إليها بفضل رسومها المخفضة والتزاماتها الرمزية التي يسهل تحملها مهما كان الحال. 

وأيضا الإعفاء الكلي أو الجزئي عن الرسوم، والذي يتمتع به بعض الطلبة الذين لا يجدون هم ولا أولياؤهم ما يمكنهم دفعها.

       التسهيل الذي حققته شبكة الأزهر البري في قطاع المواصلات بالسنغال حيث تمكن السنغاليون بفضل حافلاتها العملاقة من التنقل والسفر في ظروف جيدة، وبأجور مخفضة ومواعيد محددة، وقد دفعت هذه التجربة كثيرا من أصحاب رؤوس الأموال إلى الاستثمار في هذا المجال مما ساهم في تحسين ظروف النقل العام في السنغال.

     توفير فرص عمل لكثير من الشباب من خلال توظيفهم في المعاهد والمخابز والحافلات والمطابع مما مكن آلافا معظمهم متخرجون في المعاهد من بناء حياة اجتماعية مستقرة بما توفر لهم تلك الوظائف من بناء دخل ثابت.

        توطيد العلاقات الاجتماعية وتوسيع دائرة التعارف بين أفراد المجتمع بما تقوم به المعاهد من عمليات صهر لذويها في بوتقة من الاندماج والتلاحم والتزاوج، الأمر الذي لعب دورا كبيرا في تثبيت دعائم الوحدة الوطنية والأخوة الإنسانية.

        تمكين الجالية السنغالية في الخارج من إيجاد أرضية تربطهم بالتراب الأم،  وتخلق لهم أجواء مناسبة للتضامن والتآزر، وتساعدهم على تنشئة أولادهم الذين يزدادون في بلاد الغربة تنشئة تمكنهم من التأقلم مع الواقع المحلي بعد العودة، كما تربطهم بالجاليات الإسلامية الأخرى ترابطا تعاونيا مثمرا.

لقد تمكن الشيخ محمد المرتضى امباكي -  رحمه الله تعالى ورضي الله عنه – من تحقيق إنجازات دينية وثقافية واجتماعية مهمة ضمن بها لنفسه ذكرا حسنا في حياته وبعد رحيله، واكتسب بها أجرا مستمرا وثوابا متواصلا بفضل نظام الوقف الذي تبناه وأحيا به سنة نبوية عظيمة جهل قيمتها أغلب الناس في بلاده وأضاعها الكثير ممن عرفوها،

وقد برهن بما قام به على أهمية الوقف الإسلامي وقدرته على تقديم الكثير من الخدمات والحلول المناسبة لمشكلاتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وما حققه هذا الشيخ الجليل لدليل ناطق على سلامة هذا الاتجاه السليم، وعلى أنه كفيل بدفع عجلة التقدم الاجتماعي والتنموي إلى الأمام، بشرط أن يحاط بما يلزم من عناية واهتمام، فمستقبل الدعوة الإسلامية خاصة في بلادنا تتطلب بإلحاح ضرورة اعتبار هذا النظام أساسا لتمويلها، بذلك نكون قد أعددنا العدة لمواجهة الأعداء من دعاة التنصير وحملة الأفكار الإلحادية والإباحية الهدامة التي يتقمصون هذه الفكرة فيما يسمونه منظمات خيرية ويبثون عبرها سمومهم الفتاكة في جسم الأمة